2025-09-21

غربة مألوفة

 


بقلم دكتور محمد الشافعي 

وجود الإنسان في بيئة تشبهه، وتنبض على إيقاع روحه، هو نعمة لا يعرف قدرها إلا من جرب الغربة في حضرة من لا يشبهونه، ولا يلتقون معه في الوجدان ولا الرؤية. فأن تكون بين أُناسٍ لا تضطر لأن تشرح نفسك لهم، ولا تضع قناعًا كي تُفهم، ولا تتحفظ على صدقك خشية التأويل، فتلك هي الطمأنينة في أنقى صورها، والسلام الداخلي في أقرب معانيه إلى الروح.

ثِقل الحياة لا يكمن في الأحداث فحسب، بل في اضطرارك الدائم لتفسير ذاتك، وفي التنازلات الصغيرة التي تقدمها كي تمرّ اللحظة بسلاسة، وفي التمثيل الذي يسرق من قلبك تلقائيته، ومن عقلك صفاءه. ولهذا، فحين تجد المحيط الذي يفهمك دون شرح، ويحتويك دون شرط، ويأخذك كما أنت لا كما يجب أن تكون، فإنك تكون قد ضمنت ملاذك، وربما وجدت خلاصك.

أما أنا، فقد أتعبني الجو المحيط بي، لا في الشارع ولا في العابرين، بل في المكان الذي ظننته الأقرب للعقل والرقي والنبل... في قسم الآثار. حيث توقعت أن أجد بين الأساتذة من يشبهون عظمة التاريخ الذي يدرّسونه، واتساع أفق الحضارة التي يتأملونها كل يوم، فإذا بي أُفاجأ بنفوس ضيقة، وطباع مجهدة، وتعامل يخلو من الرقي الذي يُفترض أن يسكن أصحاب العلم. كأنني أعيش في تناقض صارخ: بين فخامة الماضي وقبح الحاضر، بين المرويات المجيدة والواقع الباهت. ولعل هذا ما يزيد ألمي؛ أنني لم أكن أتوقع أن أُخذَل من النخبة.

الراحة ليست في صمت الضجيج، ولا في خفوت الصخب، بل في الوجوه التي تراها فتطمئن، وفي الأحاديث التي لا تحتاج إلى انتقاء الكلمات فيها كأنك تمشي بين شظايا الزجاج. الراحة في جلسة يُلقى فيها القلب على الطاولة بلا خجل، ويُنصت للضعف كما يُنصت للقوة، ويُحتفى بالعادي كما يُحتفى بالاستثنائي. هناك فقط يُمكن أن تستقرّ النفس، وتلتئم الفجوات التي صنعتها سنوات التظاهر والتأقلم.

لذلك، فمن البداهة أن يُعيد المرء ترتيب الكون من حوله، أن يُنقّي محيطه من كل ما يُربكه، أن ينسج عالمه بيديه، ويمنحه شكله وألوانه. ليست هذه رفاهية كما يظنّ البعض، بل ضرورة لبقاء الروح حيّة. فكم من روحٍ خَبَت لأنّها ظلت في بيئة غريبة عنها، وكم من قلبٍ ذَبُل لأنه لم يجد من يُحسن الظن به.

نحن لا نحتاج كثيرًا لنكون بخير، فقط مساحة نكون فيها على سجيّتنا، وقلوبًا لا تُشبهنا فقط، بل تُحبّنا كما نحن. حينها، يصبح الوجود أخفّ، والتردّد أقل، والقلق أضعف، وتُزهِر داخلنا حدائق كانت قد يَبِسَت من طول الانتظار.

ليست هناك تعليقات: