دكتور محمد الشافعي
ما أضيقَ عيونَ الأحكام حين تُطلق على الناس من أول نظرة، وما أجرأ الألسن حين تروي عنهم دون أن تغوص فيهم. إننا كثيرًا ما نرى البشر كأنهم صورٌ على سطح الماء، نُحكم على لمعانهم من انعكاس الضوء، وننسى أن في الأعماق عوالم أخرى، لا تراها العيون المتعجلة، ولا تدركها الأحكام المتسرعة.
الناسُ بحار، لا تشبه موجةٌ منهم أختها، ولا يتكرر شطّانهم مهما بدا ذلك في الظاهر. منهم من تُبهرنا زرقة ظاهرهم، لكن لو اقتربنا لوجدناهم موحشين، خاوين، عميقي الصمت. ومنهم من تظنه ضحلاً لا عمق له، فإذا ما حاولت التوغل في قلبه، وجدت كنوزًا مطمورة، وجواهر دفينة لا تُرى إلا لناظرين بصيرين.
كل إنسانٍ كتابٌ مغلق، ليس له عنوان واضح، ولا فهرس مفصل. نقرأ منه ما يُتاح، ونجهل ما خفي بين سطوره. وبعض الصفحات لا تُفتح إلا لمَن استحق، ومن تَقدّم بقلبٍ صادق، لا بعينٍ فاحصة. وما أندر أولئك الذين إذا اقتربوا من أرواحنا، فعلوا ذلك كما يطرق الحُبُّ بابًا: بلطف، ووجل، وتوقير.
في زمن التسرع، صارت الحُكمُ على الناس عادة، وصار الغموض عيبًا لا ميزة. كأننا نسينا أن بعض الأرواح لا تزهر إلا في الظل، وأن العمق لا يُعلن عن نفسه في ضوء النهار، بل في سكون الليل لمن أرهف السمع والروح.
الحكمةُ كل الحكمة أن نُجيد الصمت أمام ما لا نفهم، وأن نُكرم المساحات غير المكتشفة في الآخرين. فليس كل ما خفي نقصًا، ولا كل ما لم يُفصح عنه ضعفًا. بل كثير من النقاء لا يُجاهر بنفسه، وكثير من الجمال لا يطلب الانتباه.
فلنكن أكثر رفقًا في أحكامنا، أكثر تواضعًا في قراءاتنا للآخرين. نُمسك عن الظن، ونترك للأعماق حرية أن تظل مستترة، حتى يأتي من يستحق أن يرى... لا بعينه فقط، بل بقلبه.
وقد عرفتُ هذا يقينًا لا ظنًّا، إذ خالطتُ زملاء وأصدقاء وأقرباء، ما كنتُ أرى فيهم إلا السطح الهادئ، حتى جاءت مواقف فاصلة، كشفت لي أعماقًا لم أكن أظنها هناك، بعضها أدهشني جماله، وبعضها صدمني قسوته. عندها أدركت أن الأرواح لا تُكشف بالرؤية، بل بالاختبار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق