2011-05-22

الـجـغـرافـيـا والـتـاريـخ


لقد عَرف العربُ الجغرافيا وامتلكوا معارفها السطحية، أي: سطح الأرض، ولم يخوضوا في علومها إلى أن قاموا بفتوحاتهم شرقاً وغرباً، حيث حدث التواصلُ مع الأمم الأخرى، ومعها تمت المعرفة، ورُسمت خرائط جغرافيةٌ للمدن والبلدان والدول، وما تحويه جغرافيّة كلِّ أرض من ظاهرها، كان منهم ابن حوقل ( أبو القاسم محمد العراقي )، والإدريسي الملقب بالشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد المغاريبي، وللأسف لم تدخل الجغرافيا قواميسَ اللغة العربية، ولم تعرفها إلاّ من خلال المعارف والعلوم الغربية، ومعجم الجغرافيا القاصر عن تعريف الجغرافيا الحقيقية، والذي أنجزه الإدريسي والذي لم يذكر فيه عربياً سوى القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوربا .
إن الجغرافيا التاريخية، لا يمكنُ فصلُها عن تاريخ الجغرافيا، فالصلة بينهما مركبةٌ ومعقدة، ولا يمكن فصلها، فالإنسان يتحرك على الأرض، أي: أن التاريخَ يسجِّل مشاهداته عليها وبدون ذلك لا تاريخ ولا جغرافيا، فالاثنان يحتاجان بعضَهما من أجلِ إظهارِ ذلكَ التراكم الحضاري، والسياقُ التاريخي لحركةِ دورانِ الأرض أي: الجغرافيا.
بحثُنا سيسير ضمن حوارية المعرفة، التي تحتاج دائماً أثناء حدوث التأمّل في المسير وقراءة الصور التي تنجب العلوم ، القادمة من أسئلة تحتاج لإجابات، كي نطوّرَ معارفنا الجغرافيّة التي تتكون منها أسس وقواعد علم التوطين، والتوطين ينشئ وطناً والوطنُ يطلب السيادة، والسيادةُ تعني الاستقلالَ والحمايةَ وتقديمَ التضحيات في سبيله، وكلُّ ذلك يعني أن الجغرافيا تستحقُّ التضحيةَ الفكريةَ التي تنجبُ لها قوةً علميةً، تحافظ على أصولها وفروعها، كما الأسرة تحمي بعضها ببعضها، ومن ثمّ تظهر مسؤوليةُ الحفاظِ عليها وعلى الجغرافيا العامة، فالجغرافيا الخاصة أنجبها الإنسان صاحب خصوصيتها، وفي داخله تعيشُ حياتها الكوكبية، بكون جغرافيتنا كوكباً حياً، إذا انتهى جزءٌ منه تعقدت علاقة الاتصال وحدث الانفصال، أي أن النهاية مرتبطٌ بعضُها ببعض، كمثل البداية مسؤولة عنها كلّها، سؤال مهمٌ جداً أرجو البحث به: من أجل ماذا قامت الحروب؟ والأهمُّ من أنشأ حدودَ الدّولِ والأمم، ورسمَ خرائطَها، وحدَّد أبعادها؟ هل تعتقدون معي أو من برأيكم أهو الإنسان الحديث، أم ذلك الإنسان الموغل في القدم الذي نستكشف إنجازاته، ونحيا على علومه ونستقي منها التطور الحادث لحظة وصولنا إليه؟ .
لا جغرافيا دون أرضٍ حيّة، كما أنَّ لا تاريخ بلا تأريخ، القاسمُ المشتركُ بينهما هو الإنسان، الذي بوجوده وُجدت المعرفةُ والفهمُ والعلمُ، وبانتفائه ينتفي كلُّ شيء، وحينما ندركُ ضرورةَ وجود كوكب حيّ (أرض حيّة) أنجبت إنساناً يقوم بدراستها، وتحديد أنواعها، يتقبّل الحياة في حالتها ميتة أو ساكنة، يحدِّد وصفها وشكلها، ويدوِّن مشاهداته عليها، بغاية إدخالها الذاكرة الإنسانية، التي تسجِّل فيها التطورات الزمنية، فنعلم من خلالها تاريخ جغرافيَّتها أيْ عمرَها وقبولَها وتقبّلَها ورفضَها للموجودات الظاهرة عليها، ومن ذلك يتمُّ الحكمُ على قوة التداخل بين الجغرافيا والتاريخ، ممّا يدلُّنا ويؤكدُ ضرورة وجود إنسانٍ عليها، يحكمها ويسطِّر تاريخ وجوده ومساحة جغرافيته.
من هنا نبدأ مؤمنين بأنّ الإنسان حاكمُ الأرض (أي الجغرافيا) ومبدعُ تاريخها، فظهوره عليها ومنها، أعطاه عبء الواجب في إظهارها، وتأريخ حوادثها ذات السياق والحدث الطبيعي: الطوفان- الزلزال- ارتطام النيازك بالأرض- جملة الآثار والمتغيرات-، الجغرافيا التي تنشأ عن هذه الظواهر كاختفاء قارات أو ظهور أخرى، وأيضاً ما أنجزه الإنسان بقوته الفكرية المعمارية، والإنشاءات التي يشيِّدها كالحضارات الشواهد في مختلف بقاع الأرض، أي دلالات التاريخ على الجغرافيا، والتي تُظهر الارتباط الحتمي والطبيعي بين التاريخ والجغرافيا، والذي لا يمكن لنا فصله على الرغم من معرفتنا بأن هناك علماً للجغرافيا وعلماً للتاريخ، هذان العِلمان اللذان لم يتخصّص بهما إلا النذُر اليسير من البشر، بكون الكثرة لم تأتلف التفاعل معهما واعتُبرا من العلوم الجافة، علماً أنه بدونهما لا معرفة ولا علوم، على أهمية وجودهما بين مجموعة العلوم، ودخولهما تحت مسمّى العلوم الإنسانية .
لقد اختبأ التاريخ والتأريخ في عمق الجغرافيا أي: تحت الأرض، كيف نعلمُ عن ماضينا البعيد دون جغرافيا أيْ دون أرض، ما معنى علم الآثار والاكتشافات؟ وأين وكيف تتمُّ نتاجات الكشف؟ ماذا يعني لنا كشفُ تاريخ الإنسان؟ وبالتالي كشفُ كنوز الأرض، وكذلك علمُ الجيولوجيا وما يحمله من ماديات تؤدّي إلى تطور البنية البشرية، وحلولِ الوسائطِ المادية أمام الوسائطِ الروحية، الإنسانُ الأساس قام عبر كلِّ الحقب التاريخية بإنجاز كلِّ ذلك، وتدوينه في مواقعه التي أنجز بها حضورَه، وحضاراتِه وعلومَه وإبداعاته، وعليه يكون الإنسان هو الرابطة الحقيقية بين الجغرافيا والتاريخ، لتكون الأرض (جغرافيته) هي الصِّفر، هبطت عليه النقطة فوُلد الواحدُ منها، ومعه ولد وتوالد كل شيء، وإنني لأعتبر أن الجغرافيا هي الأمُّ الحقيقية لمجموعةِ العلوم، ولولاها لما كان إنسان، وإذا لم يكن هناك جغرافية، فلا وجود لأيِّ شيء ولا معنى بدونه .
إذن، هي علم الأرض والظواهر الطبيعيةِ المحيطةِ به، والحياة الحيّة: إنسان، نبات، حيوان والجمادات الموجودة على مائدتها، فإذا كانت وصفاً للموجودات، فنحن نقسّمُها إلى جغرافيا طبيعية، وجغرافيا بشرية، وجغرافيا تقسيميّة، تحدد مواطنَ الإنسان وانتماءه إليها، وحدودَه التي رسمها لاحقاً، واعتبرها موطنَه حيث أنشأ عليها كيانَه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ورسم لها شخصيةً واسماً وعَلماً وحدوداً يدافع عنها، بكونها منجبتَه ووالدتَه، كما تدافعُ هي عنه كلما ابتعد عنها، تناديه كي يعود إليها بعد إتمام دورته الحياتيّة، التي ينفعلُ ويفعلُ ويتفاعلُ بها ومعها وعليها وحولها .
الأرض جغرافيةُ الإنسان حدّد بها مواقعَ سلالتِه البشريةِ، ونوعيةِ وألوانِ سكّانها، أطَّر مدنَها أنجز بها الأقاليم ذات الكيانات السياسية، كما أشاد فيها البنى الاقتصادية على اختلاف تنوعاتها، بعد أن استكشفها ودخل إلى أعماقها، وحرثها وفهمَ زراعتَها واستخدم موادّها للصناعة والطاقة، زيَّنها ودعا إليها الأجناسَ، والأعراقَ، والألوانَ من الأقاليم الأخرى، بعد أن صوّرها، وتبادلَ معهم صُوَرها.
سؤال مهم أطرحه: هل يمكن تزوير الجغرافيا؟، كما تمّ تزوير التاريخ بالتأريخ الذي صنعه الخبثاءُ والأقوياء، وبشكلٍ أدق: هل يمكن أن يتحدث إنسانٌ سوريٌ ويدّعي بأنه أمريكي الأصل أو صيني؟ ما علاقة اللونِ الإنساني بالتربة؟ وأيّان ظهر الإنسان على جغرافيةٍ أخرى وحقّق فيها مكاسب وحضوراً، هل يمكن تزوير الجغرافيا كما تم تزوير التاريخ بالتأريخ الذي صنعه الخبثاء والأقوياء ..وبشكل أدق :هل يمكن أن يتحدث إنسان سوري ويدعي بأنه أمريكي الأصل أو صينيفعند البحث في أصوله نقول إنّ أصلَه سوري، وهو في أيِّ بلد من العالم. التاريخ يلتهب كبركان حينما نحاول إخفاء جغرافيتنا، فيرمي بنا إلى جغرافيتنا الحقيقية. هنا أتوقف أيضاً لأسأل سؤالاً مهماً: مَن شكّل الأمم، ومَن رسمَ حدود الدول؟ هل هي وليدة الحاضر الحديث أم أنها تعيش في عُمق الزمن ومنذ النشأة الأولى؟، ألا تعتقدون معي أن ذلك الإنسان القديم قد أنجز كل شيء ودفعة واحدة وفي شتى العلوم، وحينما نرتبط إلى الكتاب الكريم والكتب المقدسة، ونعلم منها كيف أنّ الإله الواحد علّم الإنسانَ الأسماءَ كلّها، أي أنّ الإنسان الذي نبت من الأرض الأنثى أعني: الجغرافيا أنثى والتاريخ السماء ذكر، ولحظة تعلُّم الإنسان لكلِّ هذه الأشياء ولحظة حصول الاتحاد، شاهد هذا الإنسان الهابط من السماء الكواكب كلّها، واختار منها كوكبه الأرضي المشوب بالزرقة فعرف أنه كوكبه الحي، الذي يستطيع أن يحيا عليه، أو اقتنع بأنه نبت منه كنبتةٍ، وتجذّر في أرضه، فعرفَ قيمة جغرافيّتِه، لينسجَ حولها تاريخاً صوَّره بقدراته العقلية والتأمّلية، التي أدت إلى إنجاز فعله التاريخي، مؤرخاً لمسيرته القادمة، والتي دعانا إليها لاستكشافها ضمن أعماق الجغرافيا التاريخيّة وحكمَ علينا بروابطها .
أقول نعم وبإجابة عن السؤال الكبير، إن التأريخ يستطيع أن يزوِّر الجغرافيا، فالبشرية تمتلكُ قُدرةَ محوِ بعضها حينما تمتلك شرَّ التسلّط، كما حدث مع الأميركان الجدُد، وفي الأصل هم أوروبيون، جلّهم إنكليز واسكتلنديون وأيرلنديون، عملوا على محو الجغرافيا الأساسيةِ للهنود الحمر، وتشييد الولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً يحاولُ اليهودُ بصهيونيتهم تشييد كيان لدولة يهودية دينية على جغرافيةٍ كنعانيةٍ سوريةٍ فلسطينية .
أعود لأسأل من أوجد أسماءَ الأمم الجغرافيّة؟ من خطَّ خرائط حدودها الجغرافيّة؟ متى وُجد علم الخرائط؟ من أطلق الأسماء على الأمم؟ السورية، والصينية، والروسية، والفرنسية، والرومانية، من حدّد بدقة مساحة جغرافيّة روسيا القيصرية، كيف تمّ تحديدُ مساحتِها التي بلغت 17,075,200 (كيلو متراً مربعاً) - والولايات المتحدة الأميركية بعد تشكّلها من إحدى وخمسين ولاية، ولكلِّ ولاية مساحتُها في المجموع العام التي بلغت 9,629,000 كم2- ومساحةَ الصين التي بلغت 9,596,960 كم2- ومساحةَ سورية مع لواء اسكندرون 185,180 كم2- ومساحةَ فلسطين التي بلغت26805 كم2 مع الضفة الغربية وقطاع غزة- ومساحةَ فرنسا التي بلغت 91,000 كم2- وكذلك الهند التي بلغت 3,287,000 كم2 - واليابان التي بلغت مساحاتها 377,835 كم2والمتجمعة من مئات الجزر. إن غايتي من هذه الأسئلة الوصول إلى فهم تاريخ الجغرافيا والبحث فيهما معاً فلا انفصال بينهما .
بعد هذه الأمثلة، أتوقف معكم وأعترف أنني لست جغرافيّاً ولا مؤرخاً؛ بل باحثاً متأملاً في الحركةِ الإنسانيةِ الكونيةِ وانفعالاتها وتفاعلاتها، ضمن المسيرة الإنسانية الحيّة، وغايتي البحث في شؤون ذلك الإنسان القديم الجغرافيّةِ التاريخيّة، ذلك المبدع الذي أنجز كاملَ فصول المعرفة دفعة واحدة، وأورثها الجينات من أجل الاستمرار، وهنا علي أن أطرح بعض التساؤلات: هل يستطيع أيُّ جغرافي أو تاريخي أن يجبيني عن آليات تحدي سور الصين العظيم، وكيف تمَّ رسمه؟ إنّ قمة هذا الجبل لك، وذاك الوادي القابع في عمقِه لي، والثورةُ الصناعيةُ لم تحدثْ إلا منذ ما يقرب من مئتي عام تقريباً، أسئلةٌ مهمة أطرحها مرة ثانية وثالثة ورابعة، أيةُ مسؤولية يتحمّلها ذلك الإنسان القديم بمعارفه الموغلة في القدم ونوعه كإنسانٍ عاقل، رسم لنا كافة دقائق الحياة ودعانا لاستكشافها بهدوء ورُويّة، إن كلَّ الكتب المقدسة ذكرت الكثيرَ عن الأمم السابقة، كيف تمّ تحديدُ أسمائها وجغرافيّتها وتاريخها، النبي العربي عليه السلام قال اطلبوا العلم ولو في الصين، وموسى الفرعوني أراد أن يتوجه إلى فلسطين الكنعانية، ولم يصل، فَتاهَ في سيناء، كيف عُرفت سيناء المصرية، وفلسطين الكنعانية، وأثينا الإغريقية وروما الإيطالية، السيد المسيح تجوّل في قانا والجليل، وتعمَّد في نهر الأردن، جغرافيّاً أسألكم: آلاف السنين مرّت والمواقع الجغرافيّة ذاتُها والمشاهد عينُها ما تزال قائمة، والإله قال في الكتاب الكريم: " إنّا كلَّ شيء خلقناه بقدر" كيف نفسِّرُ هذه الآيات الكريمة؟!.
لماذا أدخل من محاور متعددة، وما علاقة الإنسان القديم والدورة الحياتية التي نعيشها الآن، وإلى أين تأخذنا أو نأخذها، وأيضاً ماذا تعني الكثافة البشرية وتقلص المساحات الجغرافيّة، ولماذا هذا التزاحم البشري على الأرض وحالات الصراع الفكري المؤدية إلى الحروب، ومن أجل ماذا تقوم الحروب، أليست جميعها جغرافيّة تاريخية تعيد ذاتها، وما الغاية منها في الناتج النهائي، هل الإنسان أم الأرض ومكوناتها ؟.
إذاً الصراع على الأرض أولاً وأخيراً، أي: على الجغرافيا التي تسكن العقل البشري صاحب تحويلها إلى جغرافيا سياسية، ومعنى الجغرافيا السياسية (التابو) المحرم والمقدس: الجنس- الدين- الصراع الطبقي. إننا نتابع اليوم الجغرافيا السياسية والذي ظهر كمصطلح (الجيوبوليتك ) دون التعمق به، والذي يسكنه أيضاً التاريخ، فلولا الجغرافيا مرة تلو المرة ما كان إنسان، والإنسان صاحب التاريخ، ومنجز كامل السياسات الجغرافيّة، والجغرافيّة السياسية، حيث لم يستطع أن ينجز تاريخاً سياسياً بدون جغرافيا سياسية، لنتفكر وندرك أن تناقص مساحات الجغرافيا الحية، وتحول جزء كبير منها إلى جغرافيا ساكنة أو ميتة، يؤدي إلى نشوء الصراعات والحروب بشكل كثيف وعنيف، ويسرع من إنهاء الدورة الحياتية وإنني لأعتقد أن جغرافيتنا الحية تعبت كثيراً ولم تعد تحتملنا؛ بعد أن نهبنا الكثير الكثير من مخزونها، وبشكل أدق كلّما نهبنا ثرواتها تسارعت مسيرة موتها فلننتبه.
أختم لأقول: إن فهم علم الجغرافيا، وتحولاته وتقسيماته الطبيعية والاقتصادية والسياسية، وعلاقته بالتخطيط والاستراتيجيا والمسيرة الحياتية؛ يدعو جميع الباحثين للاهتمام به، فهو علم جميل ارتبط بتكوين الإنسان على مدى مسيرته الحياتية وسيرورته الدنيوية، وعلاقته بالتاريخ علاقة إنسانية بحتة، وبدونهما لا وجود للحياة .
وإني لأقصد من كل ذلك عملية إنشاء حراك ضمن علم الجغرافيا، كي لا يكون ساكناً أو ميتاً أو جافاً، ومن القول الكريم الذي أستشهد به حيث خاطبنا ربنا (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) وهنا تتجلى عملية الجغرافية والتاريخ معاً، لنعمل على تحريك علومها بامتلاكها.
د.نبيل طعمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 38 آب 2010

رسالة إلى الحضارات الكونية


م। فايز فوق العادة

حملت كل من المركبتين الفضائيتين بايونير10 وبايونير11 نسخة من رسالة موجهة إلى الحضارات الكونية. قبل أن نبحث أمر هذه الرسالة سنتحدث عن الهدف الرئيسي الذي أطلقت من أجله كل المركبات الفضائية التي دعيت بنفس الاسم: بايونير.
صممت هذه المركبات بهدف دراسة الفضاء الذي تسبح فيه المجموعة الشمسية، كان الغرض من المركبتين بايونير1 وبايونير2 سبر القمر والزهرة واختبار مجموعة من الأدوات لاستخدامها في مركبات تالية، عُقمت المركبتان المذكورتان تحاشياً لاحتمال اصطدام غير مخطط بالقمر وتلويثه بالبيولوجيا الأرضية.
توقفت بايونير1 عن البث بسبب توقف بطاريتها بعد أن أخطأت منظومة التوجيه الخاصة بها بدفعها نحو القمر، يُعزى تعطل البطارية إلى انخفاض درجة الحرارة الناجم عن عدم تحقق التقابل المطلوب مع دفق الحرارة الشمسية، حققت المركبة إنجازاً هاماً بإرسالها معلومات عبر حزام فان آلن الإشعاعي وإلى حوالي 600000 كيلو متراً عن الأرض، صممت كافة مركبات بايونير على أساس لف ذاتي يوفر استقراراً في حركة وتوجه كل منها.
سجلت المركبة بايونير 5 تقدماً ملحوظاً بإرسالها لأول مرة معلومات عن الفضاء البعيد للمجموعة الشمسية خاصة عن فعل الجسيمات والمجالات في ذلك الفضاء، طُورت المركبات بايونير بدءاً من العام 1962 عندما لحظ معيار جديد تتوجه المركبة بايونير ذات اللف الذاتي بموجبه بعد أن تدلف إلى المدار الخاص بها بين الكواكب. هناك الآن أربع مركبات من هذا النوع تسبح في مداراتها حول الشمس، تم توزيع الخلايا الشمسية في كل مركبة على سطح أسطواني في محيطها الخارجي، كان محور اللف الذاتي في المركبات بايونير المتأخرة عمودياً على مستوي مدار الأرض حول الشمس. صممت المركبات كي يتحقق التعامد المذكور بعد إطلاق كل مركبة بعدة ساعات أو عدة أيام وبفعل دفع نفاث من غازات مضغوطة باردة محملة على متن المركبة يفرض مزدوجة دوران متغيرة على المركبة، تناور المركبة لعدة ساعات بعد بدء النفث الغازي ثم يستقر محور دورانها حول نفسها بعد ذلك في وضعه العمودي، ثُبت اتجاه الدفق الحراري المنبعث عن كل مركبة بحيث يكون عمودياً على الشمس في كل الحالات، يمتلك مثل هذا التصميم مزايا فيزيائية خاصة.
خطط للمركبات بايونير المتأخرة أن تبحر بعيداً عن الشمس. بكلمات أخرى لم تعتمد المركبات المذكورة بشكل كامل على الطاقة الشمسية مثل مركبات بايونير الأولى، لذا حُملت كل مركبة منها مولداً كهربائياً يعمل بالنظائر المشعة، وفق هذا التصميم يتحلل البلوتونيوم 238 فيدفع شبكة من الوصلات الكهربائية الحرارية المكونة من عناصر موجبة من الأنتيمون وعناصر سالبة من خليط تليوريوم والفضة والجرمانيوم . يساوي نصف العمر للبلوتونيوم 238 حوالي 50 سنة.
تفي هذه المدة بمتطلبات الأغراض العملية كي تبحر المركبة بايونير عبر فضاء المجموعة الشمسية.
أجريت دراسات خاصة لكيفية تحميل المركبة بهذا النوع من الوقود وكيفية تخلص المركبة من نواتج تحلل البلوتونيوم 238 بما يضمن أن تلقي المركبة بالنواتج بعيداً عن أي جسم فضائي.
شمل برنامج عمل المركبة بايونير 10 إجراء تجربة بينما أضيفت تجربة إلى برنامج عمل المركبة بايونير 11 تضمن الحيز المعد لإجراء التجارب الجانب الخلفي للهوائي حيث وضعت الحساسات الخاصة بالجسيمات الفضائية والتي اعتمدت في عملها استشعار الضغط، حملت المركبة معها مقياس استقطاب خاصاً استخدم مزيجاً من اللف الذاتي ونودان التلسكوب المثبت على المركبة.
قامت الحواسيب بإظهار اللقطات التي حققتها المركبة لكوكب المشتري والتي أجريت أثناء عملية مسح أنجزتها المركبة عند لفها حول ذاتها، كانت الصور المحصلة الأجود فيما عرفه علم الفلك، كان لابد للمركبة بايونير من هذا النوع أن تعمل في محيط إشعاعي يتولد بفعل المولد المحمول على متنها وجراء مرورها في أحزمة الأشعة لكوكب المشتري.
نستعرض فيما يلي أهم الإنجازات التي حققتها بعض المركبات الفضائية من مجموعة بايونير.
قامت المركبة بايونير 12 بوضع تلسكوب راداري في مدار حول كوكب الزهرة، قام التلسكوب بمسح الكوكب من أحد قطبيه إلى القطب الآخر، إن طريقة المسح بسيطة من حيث المبدأ، يطلق التلسكوب نبضة رادارية نحو الكوكب ثم يقيس الزمن اللازم لارتدادها، يكون هذا الزمن أقصر إن ارتدت النبضة عن قمة جبل وأطول إن ارتدت النبضة عن قاع أحد الوديان، تبين بتحليل هذه النبضات أن الحمم البركانية هي التي شكلت سطح كوكب الزهرة وأن الرياح أسهمت بهذا التشكيل لكن بدرجة أقل، أسقطت المركبة بايونير 12 أجهزة خاصة في الغلاف الجوي لكوكب الزهرة، اكتشفت هذه الأجهزة أن كوكب الزهرة قد مات بيئياً بسبب الاحتباس الحراري الذي نجم عن تراكم غاز الفحم في الغلاف الجوي للكوكب، ما حدث في تاريخ كوكب الزهرة هو تحلل الماء إلى أوكسجين وهيدروجين بفعل الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس، تسرّب الهيدروجين إلى الفضاء الكوني بينما اتحد الأوكسجين مع فحم الكوكب مكوناً غاز الفحم بطبقات سميكة في غلافه الجوي ومؤدياً إلى ارتفاع تدريجي في درجات الحرارة بالقرب من سطحه إلى أن بلغت خمسمئة درجة مئوية.
لقد انقلب كوكب الزهرة إلى جحيم حقيقي. أطلقت المدنية المعاصرة على كوكب الأرض كميات كبيرة من غاز الفحم في غلافه الجوي، نجم عن ذلك احتباس حراري مماثل ارتفعت بسببه درجات الحرارة بالقرب من سطح الأرض وستثابر على الارتفاع التدريجي مع مرور الوقت، أفادنا علم الفلك بدرس واقعي عن ظاهرة الاحتباس الحراري بسبر مثال " فعلي هو كوكب الزهرة ".
انطلقت المركبة بايونير 10 في 2 آذار من العام 1972 ومرت على تخوم المشتري يوم 3 كانون الأول من العام 1973، تصل المركبة جوار النجم بروكسيما سنتوري وهو نجم من ثلاثة نجوم هي الأقرب للشمس على بعد حوالي أربع سنوات ضوئية بعد 105000 من السنوات، تبلغ نجم الدبران على بعد 65 سنة ضوئية بعد مليوني سنة حيث تحلق بالقرب منه. أما السنة الضوئية فهي وحدة لقياس المسافات الكونية تساوي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة زمنية كاملة مرتحلاً بسرعته المعهودة ثلاثمئة ألف كيلو متراً في الثانية.
تكافئ السنة الضوئية حوالي عشرة مليون مليون من الكيلومترات، غادرت المركبة بايونير11 كوكب الأرض يوم 5 نيسان من العام 1973، اقتربت المركبة من كوكب المشتري يوم 2 كانون الأول من العام 1974 وكانت أول مركبة تحلق بالقرب من كوكب زحل اليوم الأول من أيلول من العام 1979.
انقطع الاتصال بالمركبة يوم الثلاثين من تشرين الثاني من العام 1995 بسبب تعطل مولدها الكهربائي. تمر المركبة على تخوم أحد النجوم بعد أربعة ملايين من السنوات، حملت كل من المركبتين بايونير 10 وبايونير 11 نسخة من رسالة إلى الحضارات الكونية ثُبتت على سطح كل من المركبتين، الرسالة عبارة عن قطعة مستطيلة من الذهب طولها 23 سنتمتراً وعرضها 15 سنتمتراً، نُقشت على القطعة مجموعة من الأشكال والرموز، أشير في أعلى ويسار القطعة إلى التغيرات والقفزات الطارئة للف الذاتي لكل من الإلكترون والبروتون في ذرة الهيدروجين والتي تترافق بانطلاق موجات راديوية بتواتر 1420 ميغا هرتز وطول موجة 21 سنتمتراً، نظراً لأن الهيدروجين هو أكثر العناصر انتشاراً في الكون فلن تجد الحضارة الكونية صعوبة في فهم ما ذهب إليه العلماء الأرضيون في هذا السياق، نُقش على الهامش الأيمن للقطعة العدد 8 لكن وفق رموز نظام العد الثنائي (---1) والذي يمثل ارتفاع المركبة. يتبين شكل المركبة خلف الرسم الخاص بالرجل والمرأة على القطعة الذهبية. يعتقد العلماء أن الحضارة الكونية التي ستلتقط الرسالة لن تجد صعوبة في اكتشاف مضمونها، ذلك أن الحضارة المذكورة ستلتقي المركبة وسرعان ما ستقوم بتحديد المسافة المشار إليها وتساوي جداء العدد 8 بطول الموجة 21 سنتمتراً، يكافئ هذا الجداء الطول الوسطي للإنسان الذي أرسل المركبة.
إن تساءلت الحضارة الكونية عن مرسلي المركبة، تجد الإجابة في الرسم الخاص بالرجل والمرأة، افترض العلماء الأرضيون أن الحضارة الكونية التي ستلتقط الرسالة قد تقدمت إلى الحد الذي يسمح لها بفهم ضرورة وجود جنسين في أي صنف من الكائنات الحية بغية التكاثر والاستمرار وبما يؤدي إلى الإقلال من الأخطاء المورثية والبنيوية في الأجيال التالية، لو رُسم الرجل والمرأة بالألبسة المألوفة، إذن لذهبت الحضارة الكونية إلى الاعتقاد بأن الألبسة في الرسم هي جزء من البنيوية البيولوجية للمرسلين.
نلاحظ في الرسم أن الرجل يرفع يده دلالة على التحبب والود، يفرض العلماء الأرضيون أن ارتقاء الحضارة الكونية وتقدمها لاشك يقترن بتقلص نزعاتها العدوانية وانعدام تلك النزعات فيما بعد.
من هنا كانت التحية التي يوجهها الرجل في الرسم إلى الحضارة الكونية برفع اليد.
لكن لماذا لا تتصل بنا الحضارات الكونية؟
قد تكمن الإجابة في حقيقة أن الجنس البشري لا زال في مرحلة المراهقة التكنولوجية وقد يدمر نفسه بسبب ذلك.
أما في أسفل القطعة فهناك دائرة كبيرة وتسع دوائر صغيرة وسهم عند الدائرة الثالثة يعني ذلك ببساطة أن المركبة انطلقت من الكوكب الثالث في جوار نجم هو الشمس، تمثل الدوائر التسع الكواكب التي تدور حول الشمس، كان بلوتو إبان إطلاق المركبة لازال معتبراً في عداد الكواكب لقد تغير تصنيف بلوتو فغدا شبه كوكب بعد ذلك.
يظهر في الواجهة الرئيسية للقطعة الذهبية مخطط نجمي من أعداد مكتوبة في نظام العد الثنائي، إذا استخدمت الحضارة الكونية المستقبلية للرسالة وحدة الطول للموجة 21 سنتمتراً أو الوحدة الزمنية الخاصة بها فيمكنها أن تفسر المخطط النجمي باعتباره يمثل الأدوار الزمنية لبعض النجوم النابضة أو المسافات التي تفصلها عن الشمس، يساوي عدد هذه النجوم وفق المخطط النجمي 14 نجماً، أما الأدوار الزمنية والمسافات المشار إليها فهي التي ثبتها الراصدون الأرضيون عند إطلاق المركبة.
يطلق النجم النابض دفقات بالغة الانتظام من الموجات الراديوية تتجاوز في دقة أدوارها الزمنية أي جهاز مصنوع.
هل من الضروري أن تكون آليات الاستشعار والإدراك لدى أفراد الحضارة الكونية المستقبلة للرسالة مشابهة لآليات الاستشعار والإدراك لدى بني البشر؟ ماذا لو كانت تلك الحضارة حشرات، تطورت وارتقت! إذ ذاك تتجاوز الرسالة دون أن تلاحظها وقد تبدو المركبة بالنسبة إليها مبهمة وغير مفهومة.
أو ليس من المحتمل أن رسائل من حضارات كونية تتخللنا الآن وهنا لكن أدواتنا ومنظومات استشعارنا وإدراكنا تفشل في اكتشافها!
تصلح الرسالة على متن المركبة بايونير أكثر من مئتي مليون سنة.

المراجع:
1- sagan, carl: the cosmic connection anchor press 1973.
2- Burnham, Robert: Burnham' s celestial handbook, dover 1987.
3- Dickinson, terence: extra terrestrials, Camden house 1994.
4- sagan, carl: pale blue dot, random house 1994.
5- Harrison, albert: after contact, plenum trade 1997.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 38 آب 2010


الـحـضـارة


الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي قبل تطوير فعله المادي: ملبسه مأكله مسكنه وإنجازاته، بكونه "عقلي" فأطلق على ما أنجزه بعد أن أدهشه إنجازه حضارة، ومن ثم تبادل كلمة التحضر، والمتحضر مع الآخر من جنسه من خلال الفعل المتبادل الذي أحدث له التمايز، والاختلاف عن باقي المخلوقات التي تعمل بالإحساس، ولم تستطع تبديل نظم حياتها منذ خلقها وإلى الآن، فالطير مازالت تبني الأعشاش، والسلاحف تخفي بيوضها في الرمال، والحيوانات تعيش في الزرائب والأوكار، والأشجار والنبات لا تنمو إلا في العراء، والإنسان الوحيد تبادل الحضارة والتحضر فيما بينه وبين أخيه الإنسان، أسألك: هل أنت حضاري متحضر تسعى للتحضر، تحاول أن تقلد ما رأيت وسمعت وقرأت عن هذا المشروع الفكري الضخم المهم، بكونه الأهم في كون يحتاج الحضارة التي تبحث عنها، حيث وجدت بها، وأوجدت لك كل أشكال الجمال الفوضوي، وعبثية الطبيعة تعود علّها تميزها في نظرة الباحث المتأمل المتجول عبر محيطه؛ والمدرك لشكله الحضاري، المنطلق منه لدراسة شكلها وأشكالها وإشكالياتها، تطالب عقلك البحث والتقصي عن الوسائل والسبل أثناء قراءتك للرسائل التي ارتضيت حملها طوعاً وكرهاً، كي ترتقي أنت أولاً عاملاً على الارتقاء بمحيطك من ذاتك، حيث يغدو كل ذلك مهماً جداً لوجودك، لتعود في كل مرة تراقب ما أنجز لك، كي تنجز وتوازن وتقارن مما مضى، وتعلم وتتعلم عن تلك الإنجازات التي مررت بها حتى الآن، وتتجه ببصيرتك الممتلكة للبصر الذي يحمل أداة اسمها النظر، تدفعك لتنجز من كل ما رأيت حضارة تستمر وتنفعل، فينفعل من يرى ما أنجز على دروب غدٍ القادم من تلك، فيعلم إلى أين سرت وحيثما وصلت، يؤمن ويدرك بأنه من ها هنا عليه أن يتابع ويستمر، متجاوزاً ثقافة الأنا ليعترف به الذي يرى أنه متحضر وكائن حضاري، عاش زمانه متطوراً أوجد لهذا التطور أزمنة .
إن حصول المناوأة الخبيرة بين الأزمان، هي التي ترسم صور الفوارق بين المتروكات على الأرض مادية أم معنوية، ومنها نعلم حجم التطور وقيمة التحضر السابق؛ الذي أوصله إلى وجودنا الحالي كحضارة باقية أزلية أو بقايا حضارة نشاهدها، نعلم من خلالها قوة إيمان منشئها الذي أنجبها من فكرة البنّاء والرسّام والنحّات، وأخذ بنا للاطلاع على كمّ التوازن والاطلاع على النسب الحضارية والمقارنة بيننا وبينه، وأننا متصلون جغرافياً ومنفصلون فكرياً بدلالة أننا مستمرون في النبت نستلم منه ونستسلم له .
من منا يعتقد في عقله الباطن والظاهر أن ذلك الإنسان القديم جداً والموغل في القدم؛ والذي أثناء استقصائنا عنه عرفنا أنه مارس الهمجية عبر عريه وعيشه في الكهوف ومشاعيته في بدائية لا متناهية، وصوّر لنا على أنه متخلف وعبثي وهيامي، وأثناء رحلة تطوره التي حولته من هلامي بحري جلس على شواطئ البحار، واحتاج ملايين السنين ليصل إلى شكله الإنساني، وأن الصدفة أنجبته وأنبتته، وأنه زاحف قردي تطور عبر رحلة الوقوف كي يظهر عموديَّ الشكل وحيداً بين المخلوقات!، من منكم يعقد أنه احتاج ملايين السنين كي يدرك المدرك الذي لا إدراك له، مهما عملت وفهمت وتعلمت من أجل إدراكه، من منكم يستطيع أن يعترف أن ذلك الإنسان القديم هو أذكى من كل أنواع الذكاء الذي وصلنا إليه؟ .
بشكل شخصي أقرُّ معتقداً جازماً أن ذلك الإنسان كان ذكياً جداً وخارقاً، لماذا؟ الجواب بسيط أيضاً، وهو أننا محكمون إليه ومنجذبون إليه مستمرون منه، أؤكد أننا جدّ متخلفون عنه نسير خلفه لا أمامه، نلهث سعياً إليه ولن ندركه .
أسأل لماذا؟ مرة ثانية وأجيب بسؤال: كيف صنع نوح ذلك الفلك العظيم كي ينقذ الزوجية الاستمرارية وحاجة الحياة إليها، كيف صنع ذلك الفلك العظيم لإنقاذنا كبشر وكزوجية حياتية، حمل لها كل أنواع الطيور والزواحف والقوارض والأفيال والنمور والذباب والنمل والنحل والأغنام والأبقار والجمال وبذور الحبوب والأشجار المثمرة والخضار والفاكهة، وأهمّ من كل ذلك حمل زوجين من إنسان أبيض وأسود وأحمر وأصفر وملون، كم كان ذلك الإنسان القديم: إنسان نياندرتال الأوروبي، وجاوا الآسيوي الإندونيسي، ولوسي الإفريقي، وأحمر المايا الأمريكي ذكياً ومتحضراً من خلال مساعدته لنوح في صناعة الفلك، ألا تحتاج هذه الصناعة علوم الهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم البحار وقيادة السفن، كيف حسب ذلك الإنسان حجم السفينة وزواياها ودفتها وأشرعتها وغواطسها ومرساها، وحينما كان يهيم على وجه الماء كيف أنه أرسل الطير ليبحث له عن اليابسة، وحينما عاد له بغصن الزيتون، كيف وجه ذلك الفلك العظيم إلى تلك اليابسة ورسا على جبل الجودي إنساناً يمتلك الموروث الحضاري ينقله معه ليبدأ من جديد .
أتوجه إليكم: إن الحضارة قادمة من فعل حضر، ويعني هذا أنه حينما حضر الإنسان وُجدت الحضارات، إن كان في الريف أي الأرياف والقرى، وأينما حل بنى مسكناً شكله أياً كان كوخاً أو قصراً من لحاء أو غطاء أو مواد بناء، لذلك أقول: إن الحضارة مثيرة مغيرة على العقل الإنساني فيها الجدل وأفتح باب التأويل لكم، فقولوا ما شئتم واستخدموها حيث تريدون، واعتبروها التفوق والمجد والعظمة والرفعة، وقارنوا، وإياكم أن تعتبروا أن ذلك الإنسان الموغل في القدم همجي أو دوني.
فالإنسان إن لم يقلّب نظره إلى داخله من مكانه، ومكانة "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" لن يعلم التحضر ولا الحضارة، فإذا كنت كإنسان مخلوق في أحسن تقويم وأجمل صورة حينما نظرت إلى الماء؛ رأيت كم أنت جميل أحببت الجمال، والماء هو كائن لتكوينك فمن أين أنت قدمت، وإلى أين أنت تسير؟ أنت قطرة ماء تبخرت من بحر ومحيط الكون لتعود إليه ترويه، هكذا أنت، إن تفصل القطرة من بحرها ففي مداه منتهى أمرها، هذه الكلمات التي أتابع بها لأوجد لك الدليل والبرهان وأحدث لك التجانس لا التضاد، وإرادتي أن ترفض المحال بكون لا وجود لمستحيل والمحال، فقط أريد أن أقدم لك قضية الإنسان على أنه إنسان بصدقية الفكر الذي يرفض النقيض ويتصادق مع الروح ليغدو إنساناً .
وعليه أؤسس أنك إنسان حضاري يا أيها الإنسان، بديهي أن أقيس المبدأ الأساس في صناعتك كنظرية علمية وُجدت لاستنباط كل أساس، بعد أن أعطيت المفاتيح وهي متوافقة مع كل الأبواب، فإذا كنت قاعدة عليك أن تتجاوز البديهيات لتبني على أرضك المشكلة كقاعدة لصعودك في بنائك الذي أريد لك أن تبنيه، للعلم حينما تأتي الحضارة من حضر أي: شوهد- ظهر- لاح- بان- تكلّم- غني- وأغنى، أي وصل بعد أن لبس جلده مدنية وحمل عبء التقدم العلم والتقني والرقي والابتكار والاختراع والتنظيم، والعمل من خلال امتلاك الفكر الذي يعود عليه لينظم نفسه، وشكله وينظم الطبيعة بموجوداتها كي يصل إلى المستوى الأفضل، والذي يسعى إليه طيلة حياته التي اعتبر بها موته وسيلة استمرار لا وسيلة استسلام، إنما هي تسليم في لحظات الانتقال عند نقطة نهاية البداية؛ التي ما إن ينزل تحت الثرى حتى يتبخر إلى قطرات، تتحول إلى سحاب تهطل تعيد الحياة عبر سقي التراب وحدوث عملية الإنبات والإنجاب، وكل ذلك من أجل الوصول إلى مستوى أفضل في الحياة، وهي محاولات استكشافية، واختراع في الفكر الإنساني غايته تنظيم الحياة، وترتيبها واستغلال المحيط الطبيعي بكل موجوداته للوصول إلى مستوى حياة أفضل .
أعترف إنني إلى الآن وحقيقة أقول: إنني لم أدخل في علم (آن) الذي يحتوي ثلاثية الأزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الثلاثية الجامدة وغير المتحركة تحتاج بعدها الرابع ،وأقصد به ذاك الزمن الكبير المحيط الذي يعطيها الأمر للانتقال إلى الأمام، عليه أناشدكم التأمل ليشتغل الفكر بالتفكر وتدور عجلته مابين الماضي والمستقبل كي تعلموا أنكم في الحاضر، تتفكرون فيحدث لكم العلم الذي من خلاله تعملون تراقبون تشاهدون فتعلمون ليزداد علمكم، من ذلك أعود على بدء إلى ذلك الإنسان القديم جداً الأزلي من أزلية الإله، حيث وجد من خلاله، أوجده كي يعترف بوجوده وموجوده في وجوده، ملك كل الوجود وعرف به الناهي واللامتناهي.
الحضارة هرم متكامل لا يظهر كبناء إلا بعد أن تكتمل أبعاده التي تبث مظاهرها، فالاجتماعي المبني من الرجل والمرأة المكونَين الرئيسين للأسرة المنبتة للمجتمع الذي يعيش فيه النتاج الفكري بكامل أطيافه، المعتقدات بكل أشكالها والعبادات باختلاف طقوسها، ونشوء الروابط المنطقية بين كل ذلك، وفهم الإنسان لنظرية الحياة الكونية، وتمتع المجتمع برؤى بصرية تنجب الفن بكل أشكاله: موسيقا ورسم ونحت وعمارة ومسرح، كل هذا مجموع اجتماعي ينضوي تحت مكون قاعدي، يبنى عليه المظهر الاقتصادي؛ الذي يتجلى بإدارة الماديات المكونة للثروة القادمة من قوة العمل في القطاعات الزراعية والصناعية والإبداعية، حيث يرتقي منها البعد الثالث، وهو المظهر السياسي، حيث يكتمل البناء به ويغدو هرماً قوياً رابطاً وجامعاً ولامعاً أمام ما يبنى من هياكل أخرى في أطراف الأرض، يحمل صفة الحضارة الحقيقة، كما ارتباط الحضارة بالديمومة التي نطلق عليها الآثار بكل أشكالها مادية لا مادية، لتكون أهم مصدر يغنيها، ومتحدثاً حقيقياً عنها من خلال الإنشاءات المعمارية والإبداعات العلمية والجماليات الأدبية في شتى أشكالها، لتؤدي في مجموعها إلى استمرار الحضارة، مظهرة قيمة الأمة، حيث تستمر وتنتشر وترتقي وتقارن، لتتوضع على كفة الميزان الذي يقيس ما أنجزته مسجلاً لها وزناً وثقلاً بين الأوزان الحضارية.
الحضارة نتاج مجموع إنساني يمتلك السلوك الإيجابي يؤمن بالإنتاج النوعي الراقي وينعكس على الفرد الذي هو المكون الأساس، في البدء يظهر منه ويرتبط به من خلال الحركة والسكون والفعل والانفعال والتفاعل ضمن مسيرة حياته، وعليه تكون الحضارة موروثاً جينياً ينمو في الدماغ ويسري مع الدماء ضمن الشرايين الإنسانية حيث نتوارثه من الإرث الحضاري القديم، فإذا تم نسف ما مضى فهل يمكن لنا أن نصنع حضارة وأن نكون متحضرين، وهل تعني لنا الحضارة اللباس الفاخر والعطر الجذاب، أم أنها تراكم معرفي وتأمل معماري كوني؟ قادم من عظمة الكون ومشيداته التي ولدت الإلهام بالوراثة والإبداع بالتأمل والتفكر حيث أحدثت ثورات علمية نطلق عليها صناعة المقارنة دون أن ترتبك الروح (أي موجود روحي يقابله مصنوع مادي يقترب منه في دقة ولا يمتلك الروح حيث يكون الإنسان صانعه روحه) .
ألم نتعلم من الطائر النظافة والطهارة، هل راقبناه وهو يقوم بتنظيف جسده بمنقاره، وكيف أنه يغتسل بقطرات الماء فتعلّمنا وتحضّرنا من خلال مراقبتنا له، هي هكذا حياة الإنسان علينا أن نبحث عن الخطوات الحضارية التي سار في طريق تملّكه لها؛ كي نتعلم أن الرفاهية ليست حضارة، بكونها تقودنا إلى الفراغ، وغايتنا أن نسير بزيادة إنسانية الإنسان بكونه يلبس جلداً مدنياً، فهو مدني من لحظة نشأته الأولى ولكنه متنوع الطباع، منه من أخذ الطبع الهمجي، ومنه من حمل الإنسان في داخله وسار فأنجز السلوكيات الخلاقة التي تشير إليه على أنه إنسان متحضر، لا بشر همجي متقوقع، وكنا قد شرحنا في مواضع سابقة من كتبنا أن بشر قادمة من ( بدء شر) بدليل أن قابيل بشر وهابيل إنسان (قابيل قتل هابيل) .
الحضارة مدنية إنسانية ضمن سلسلة تاريخية لا تنفصل عراها، متعاقبة تربط الأجيال إلى بعضها من خلال توارث الثقافات والاطلاع على المكنونات والموجودات وتبادل المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وصون وحفظ وجمع كل ما له علاقة بالموروث الحقيقي القادم من الإنسان ليتركه فيستلمه إنسان حضر؛ بعد أن ظهر فيه الرقي العلمي والأدبي واستقر وأقام ولم يغب، فتمدن من مدنيته وأفرد مساحة عقلية لقاعدة ثقافية تحولت إلى بناء على شكل شبكات بلورية قوية البنيان، فيها تجتمع الجهود فتكون صورة المجموع الذين أرادوا أن يرحلوا أجساداً ليخلدوا آثاراً عظيمة يتمتع بها القادمون والمتصلون بهم .
إنها قيمة الإنسانية جمعاء عبر مسيرتها التاريخية، حيث أن كل حقبة أنجزت حضارة كانت ضمانة لها أثراً مادياً أو غير مادي هو بمثابة قمتها وقوتها وإنجازاتها، فهي الإنسان القديم الموغل في القدم، كما أنها الإنسان الحاضر، وأيضاً هي إنسان المستقبل، وحينما ندخل إلى مقارنة بين الحضارات ،وغايتنا إيجاد خطوط الاتصال ما بينها، أي مابين الشمال المادي أوروبا، والجنوب اللافكري والوسط الروحي، والذي انتشر من الشرق: في أدناه الصين الهند الفرس العرب، حيث كانت حضارة إيبلا وأوغاريت وزنوبيا والمعابد والممالك والقلاع والحصون والأهرامات والإغريق اليونان إلى أن تصل إلى حضارة المايا والأنكا، وتمركز الحضارة الروحية بإبداعاتها في الشرق الأوسط لتولّد لكامل البشرية على الكوكب الحي ضوابط تحمل الأخلاق والسلوك، وتوجد لهم المقدس والمحرّم والمقبول والممنوع، هذا التنوع الذي نتعمق فيه يأخذ بنا إلى سؤال رئيس تداولناه ونحن نمضي في إنجاز ما نريد أن نوصله إليك: هل تعتقد أن الإنسان خلق همجياً أم مدنياً متحضراً، وكيف أنه ستر عورته بورقة التين لمجرد معرفته أنها عورة، ألا يدلك هذا على أنه حضاري وماذا يعني لك هذا؟
وأنا أختم أعود لأقول: إن فلسفة الحضارة تقضي لنجاحها التعاون الإنساني، وما نراه اليوم هو فرقة إنسانية وحياوات مادية بإنجازاتها التي تزيد الفرقة، وتوسع الهوة بين شعوب الأرض، ليعمل البعض من خلال السيطرة على الكل بعكس ما كان سائداً في تلك العصور الموغلة في القدم، وكأننا لم نتعلم من تلك الحضارات سوى ما فعله قابيل لهابيل حيث قتله من أجل الحصول على زوجته وعلى ممتلكاته، فالحضارة الإيجابية مدنية يمتلكها إنسان والهمجية حضارة سالبة تتجلى فيها السيطرة والقمع والقتل يمتلكها بشر على شكل إنسان، والصراع الدائم هو صراع بين هاتين الحضارتين।
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الباحثون العدد45 آذار 2011

في سيكولوجية الحسد "الحاسد والمحسود وما بينهما


في أحد الأعياد يتصل بي مهنئاً، بعد طول انقطاع، زميل وصديق قديم مقيم في إحدى دول الغرب، وفي سياق ذلك يبيّن لي كم هو سعيد في عمله وزواجه وكيف يقضي هو وزوجته إجازاتهما في أماكن مثل جزر الهاواي ومونت كارلو وغيرها ويدعوني إلى زيارتهم في المنزل الذي يقع في ضواحي مدينة معروفة وفيه جناحان مخصصان للضيوف فضلاً عن تقديمه عرضاً لقضاء وقت ممتع في منزل الأسرة الريفي المطل على إحدى البحيرات، فلا تصدر مني سوى همهمة فاترة تفيد ما معناه، شكراً ومبروك عليك إن شاء الله أكثر وأكثر، بينما أردد مع نفسي ملتاعاً عبارة الأستاذ ياسر المالح، "يا حبيبي!". وأبقى لبعض الوقت تتآكلني مشاعر هي خليط من المرارة والضيق والإحباط. ولعل بمقدوري القول بأننا في الغالب نمرّ بشكل أو بآخر بما يشبه هذا الموقف الافتراضي، وعانينا كثيراً أو قليلاً من تلك الحالة المكدرة وما تبعثه فينا أحياناً من شعور بالذنب والخزي، والتي يطلق عليها Gluckschmerz وهي مفردة ألمانية تعني التعاسة الناجمة عن حسن طالع الآخرين(1)، والتي تجعل الحالة التي نحن بصددها تبدو على نحو ما أكثر عمقاً وذات بعد فلسفي شعري اكتئابي أكثر من كونها حسداً مجرداً. ويوافق أرسطو على ذلك بالقول إن "الحسد هو الألم الذي يبعثه فينا نجاح الآخرين".
ولذا يمكن القول إن الحسد هو نزوع المرء إلى رؤية رفاهية الآخرين محنةً شخصية له، حتى لو لم يكن فيها انتقاص من رفاهيته الشخصية. وكثيراً ما يعمي الحسد بصيرتنا فيحول دون رؤية حسن طالعنا نتيجة الانشغال بحسن طالع الآخرين، لأن المعيار الذي يستخدمه الكثير منّا في الحكم على ما نمتلك أو ما نحقق لا يتمثل في قيمتهما الحقيقية المجردة وإنما بالمقارنة مع ما يمتلكه الآخرون وما يحققونه. لذا فإن بعض الباحثين ينظرون إلى الحسد بحسبانه انفعالاً يستند إلى ما يسمى بنظرية "المقارنة الاجتماعية"، بمعنى أنه يعمل فقط في سياق مقارنة النفس مع الآخرين. والآخرون هم، في العادة، أشخاص قريبون منا شبيهون بنا، كما هو حال العاملين معنا في ذات المكتب أو المنتمين إلى نفس مهنتنا وما شاكل. والفارق الرئيس بين الحاسدين والمحسودين هو أن الأخيرين في وضع أفضل أو يتمتعون ببعض الامتياز وإن هذا الوضع أو الامتياز بعيدان عن متناول الحاسد أو هكذا يبدو الأمر بالنسبة له. وقد يتبادر إلى الذهن إننا عندما نحسد نظراءنا فإن لسان حالنا يقول؛ إن كان هو قادر فأنا الآخر بإمكاني أن أكون قادراً، ولكن تصور هذه الإمكانية ليس كافياً في أغلب الأحوال، لأن الحسد يتعلق بما هو كائن أو بما كان يجب أن يكون وليس بما يمكن أن يكون حتى وإن كان ممكناً.
وغالباً ما يتم الخلط بين مفهومي الحسد والغيرة واستخدام أحدهما بديلاً للآخر أو عدهما تسميتان لشيء واحد. ولكن الاستخدام الملائم يفرض علينا التفريق بينهما، فالغيرة تستثار استجابةً لعلاقة ثلاثية في الغالب، إذ إنها تنشأ عندما تتعرض علاقتك بشخص تحبه أو تهتم به إلى دخول غريم بينكما يهدد بسلبك ما تشعر إنه حقك الخاص، وقد يكون للغريم معالم أو صفات بإمكانها أن تثير أو لا تثير مشاعر الحسد لديك كذلك، ولكن عندما تشعر بالغيرة فإنك لست بحاجة إلى تكوين أية فكرة أو شعور لما يمتلك الشخص الثالث من صفات أو لا يمتلك. أما الحسد، من الناحية الأخرى، فإنه هو الآخر انفعال إلا أنه يخص طرفين؛ الحاسد والمحسود، ويقع غالباً بين الأقران. ويستثار الحسد عندما يقارن الشخص نفسه أو حاله أو ما يملك بشخصية أو بحال أو بما يملك شخص آخر، فإن رجحت كفة الآخر يكون ذلك مدعاة للشعور بعدم الرضا أو الضيق أو النقص أو الإحباط أو الغيظ بعضاً أو كلاً. وبالإمكان أن يكون الشخص حاسداً لأكثر من شخص واحد في أي وقت من الأوقات. وفي العادة يشتمل الحسد على الرغبة في الشكل الحسن والثروة والمكانة الاجتماعية أو / والاقتصادية التي تخص شخصاً آخر أو أكثر. والحسد والغيرة تنتجان عن موقفين مختلفين كما إنهما انفعالان متميزان أحدهما عن الآخر، وبينما تنتمي الغيرة إلى دوافع الجنس ينتمي الحسد إلى دوافع العدوان. وكل من الحسد والغيرة يجعلان الشخص يسعى إلى التواجد بين الآخرين، ولكن بينما تدفعه الغيرة نحو الانغماس في التعاطي الاجتماعي، فإن الحسد يجعل الشخص يكتفي بملاحظة الآخرين ومراقبتهم. إذ عندما يسيطر الحسد عليّ فإني أرغب في الجلوس على الرصيف مع فنجان من القهوة وأراقب خطوات العالم وهو يسير أمامي.
ومن الملاحظ أن الحسد درجات إذ يمكن أن يكون شعوراً هيّناً عابراً، وأحياناً، قريباً من الإعجاب أو كما يحصل عندما نغبط الآخر، تهويناً لمشاعرنا، على حسن طالعه. أو أن يكون حسداً مبطناً عندما تستحسن آنسة شكل أنف آنسة أخرى ولكنها تتبع ذلك بالتأكيد على أنه ناتج بدون أدنى شك عن جراحة تجميلية! أو أن يكون حسداً مترافقاً مع نوايا وأمنيات سيئة مثل، "دع بضع سنوات تمر وستجد المنخرين منطبقين على بعضهما!"، ولكي نخفف من وقع مشاعر الحسد على ضمائرنا نقوم بعقلنتها وتبريرها أحياناً بالقول، في سبيل المثال، لا بد أن يكون لدى زيد "واسطة" قوية لكي يحصل على هذه الوظيفة التي كنت أجدر منه بها. أو نلجأ في أحيان أخرى لإنكار حسدنا وتحريف حقيقة ما نشعر به، وذلك عندما ننظر إلى بيت كبير لأحدهم، في سبيل المثال مرة أخرى، ونقول لأنفسنا نحن بالتأكيد لا نرغب بمثل هذا البيت لأنه يكلف ثروة لمجرد تدفئته وإدامته، وهو ذات الموقف الذي يلخصه المثل الشعبي القائل، "اللي ما ينوش العنب يكول حامض". وهذا التقليل من شأن ما يحتازه الآخر بإمكانه أن يخفف من انزعاجنا. ولكن لو اقتصر الأمر على الانزعاج لهان الأمر، إذ وجد ريتشارد سميث، أستاذ علم النفس في جامعة كنتاكي في تحليله لعدة دراسات عن الحسد، أن هناك مجموعة لا يستهان بها من التأثيرات السلبية للحسد على الصحة النفسية، مشيراً إلى وجود علاقة مطردة بين شدة الحسد واضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق والرهاب وغيرها. وتشير دراسة أخرى للحسد في أماكن العمل إلى أن الأشخاص الأشد شعوراً بالحسد هم الأكثر تبطلاً وتسكعاً ومداهنة، إذ يجدون في انتهاجهم هذا الأسلوب العدواني السلبي، في المداهنة والتهرب من والواجبات، وسيلةً مناسبة للتعادل مع المحسودين أو التساوي معهم، "أنت أعظم رئيس عمل ولكني أنا أيضاً عظيم لأني قادر على عدم الالتزام بما تريده !". بينما وجدت دراسات أخرى أن الحاسدين غير قادرين على الشعور بالامتنان للآخرين، بل إن بعضهم يشعر بالضيق والامتعاض عندما تُمدّ له يد المساعدة، وربما كان ذلك أساساً للمأثور الشعبي القائل؛ "اتق شر من أحسنت إليه". وفي حالاته المتطرفة بإمكان الحسد أن يدفع المرء إلى أن يصبح قاتلاً، وتقدم لنا قصة قتل قابيل هابيلاً مثالاً صريحاً على ذلك.
وهناك الكثير من البصيرة الثاقبة في الصور والتمثيليات التي أوردتها الأعمال الأدبية والفنية حول الحسد والحاسدين التي ينظر إليها على أنها دراسات معمقة في الحسد، إذ لدينا، في سبيل المثال لا الحصر، اياكو في عطيل وكلاكارت في بيلي بُد واورياه هيب في ديفيد كوبرفيلد. وفي الشريط السيمي " Seven " من إخراج ديفيد فينشر (1995) يختار القاتل المتسلسل كل خطيئة من الخطايا المهلكة السبع قاعدةً لجرائمه، محتفظاً بالخاتمة لأشد الخطايا سوءاً ممثلة في الحسد. ومن المثير للانتباه أن شريطاً أحدث هو " AI " أو "الذكاء الصنعي" من إخراج ستيفن سبيلبرغ (2001) تضمن قصة تتفحص طبيعة الحب، ومع أن الغيرة قد استكشفت فيه ضمناً، ولكن إهمال أي معالجة جادة للحسد كان سبباً أساسياً في التقليل من نجاح الشريط الفني والجماهيري. ويمكن القول إن الحسد كان المحور الرئيس الذي دارت حوله أحداث شريط Amadeus، من إخراج ميلوش فورمان (1984) والمأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لبيتر شافنر، إذ يظهر اكتواء سالييري بنيران حسده الخاص لموزارت. ولعل معظم مشاهدي الشريط على الرغم من انحيازهم إلى موزارت، الذي كان جاهلاً بما يعانيه سالييري نتيجة حسده، شعروا بالإشفاق على سالييري وربما بالتعاطف معه في عذابه، والسبب في تقديرنا هو أن في أعماق كل واحد فينا يوجد سالييري مصغر أو "ميني سالييري" لذا كنا وكأننا نرى في مرآة معاناته بعضاً من انعكاس نفوسنا.
ويحاول الباحثون الآن اكتساب بعض البصيرة فيما يخص الأصول العصبونية والنشوئية للحسد، ولِمَ يستشعره المرء وكما لو كان علّة بدنية. ففي مقالة نشرت أخيراً في مجلة ساينس عرض باحثون من المعهد الوطني للعلوم الشعاعية في اليابان دراسات تفرسية قاموا بها لأدمغة أشخاص قيل لهم أن يتخيلوا أنفسهم في مواقف درامية اجتماعية ويمثلون شخصيات ذات مكانة اجتماعية وإنجازات متباينة. وعند مواجهتهم للشخصيات التي يقرّ المشاركون بأنهم يحسدونها، وجد أن ذلك يحفز نفس المناطق التي تقدح عند تعريض الشخص إلى ألم بدني. وكلما ارتفعت تقديرات المشاركين لحسدهم زاد قدح مناطق تحسس الألم في الدماغ.
وفيما يشير السيكولوجيون النشوئيون إلى أنه على الرغم من أن الحسد يبدو للوهلة الأولى انفعال يرتبط بسوء التكيف، وإن جانباً مهماً من الشعور الذاتي بالمحنة، فضلاً عن القلقلة في أماكن العمل والغريمية بين الإخوة، يعود إلى هذا الانفعال، فإنه من منظور آخر بإمكان الحسد أن يكون كلّي القدرة وذو سلطان بقدر ما هو غير مرغوب به اجتماعياً، فقد وجد أن الأطفال، ومنذ وقت مبكر كما هو حال الراشدين، سرعان ما يكونون قادرين على ملاحظة الافتقار إلى العدالة أو إلى الإنصاف، إذ إن تعرف الأفضلية التي يتمتع بها الآخرون والمعاناة من اللا إنصاف والرغبة العدوانية التي تلحق بهما أحياناً هي من المعالم المميزة للكينونة الإنسانية.
ولكن على الرغم من سمعته التي جعلته كريهاً مذموماً فإن الحسد على الأرجح أدى دوراً هاماً في بحث البشر عن الموارد الضرورية للبقاء الناجح والتكاثر على امتداد الزمن النشوئي. ويوضح ديفيد بوص، الباحث النشوئي، ذلك بالقول أن لا احد قادر على انكار ما بمقدور الحسد إلحاقه من ضرر بالشعور الذاتي بالعافية، ولكن إذا ما سلمنا بصدقية الطبيعة التنافسية للبشر في المشهد الاجتماعي، فإنه من المرجح أن يكون الذهن البشري محتوياً على عدد من السمات الاجتماعية التي منحت أسلافنا القدرة على الأداء الكفوء مقارنة بمنافسيهم. وإحدى هذه السمات التي تمت دراستها بصورة مستفيضة من قبل الباحثين كانت العمليات النفسية المسؤولة عن المقارنات الاجتماعية. إذ عندما يجري تنافس للحصول على مورد نادر فإن السياق السلوكي الحرج الأكثر ملائمة للأفراد عندها لا يعتمد على نوعية تميز الكيفيات والمواهب التي يتمتع بها الفرد ذاته فحسب، ولكن أيضاً على تلك التي يتمتع بها المنافسون الاجتماعيون المعنيون في ذات الساحة الاجتماعية. لذ فمن المرجح أن يكون الأشخاص الذين لم يشعروا بالانزعاج من تفوق الآخرين في تلك المواقف على امتداد الزمن النشوئي قد خسروا الرهان التنافسي وتم التغلب عليهم من قبل أفراد مجتمعهم الأكثر شعوراً بالحسد. إذ كما يقول بوص على الرغم مما يسببه الحسد من كدر فإن هذا النوع من الكدر الاجتماعي يعمل على تحفيز الفعل التكيفي. لذا فإن الانتقاء قد كون على الرجح مجموعة غنية من التكيفات الذهنية لدى الفرد مصممة للمحافظة على لياقته التنافسية بما يبقيه موازياً لمنافسيه. وإحدى توقعات وجهة النظر النشوئية في ذلك هي أن خبرة الحسد لدى شخص استجابة لأفضلية يتمتع بها آخر يمكن أن تكون تنبيهاً ملائماً له حول تلك الأفضلية مما يحفزه على اتخاذ الإجراء الملائم لتصحيح هذا الخلل أو على الأقل السعي نحو تصحيحه. وإن معرفة ما الوظيفة التي صُمم الحسد لأدائها يمكن أن تؤدي إلى فتح أبواب جديدة للبحوث في كيفية تدبر مشاعر الحسد ومواجهة جوانبها السلبية. وفي هذا السياق فإن معرفة ما الذي صمم الحسد لعمله يعني أن الأشخاص الذين يرغبون في التعامل الكفء مع حسدهم يفضل أن يتعرفوا الأفضلية التي يمتلكها الآخر الذي يحسدون والتي يرغبون تحقيقها لأنفسهم ومن ثم رسم مساق عملي يضعهم على درب بلوغ تلك الغاية بأنفسهم. وبدلاً من الدخول في صراع واستحداث تقانات للتعاطي مع منغصات الحسد فإن الأفضل للشخص أن يبحث عن حل للمشكلة التي نبهه إليها الحسد، على وفق القاعدة القائلة بأن أفضل علاج لوجع السن يتمثل في إزالة التسوس.
ويشير بعض الأشخاص، الذين استبينوا في بعض الدراسات، إلى أن الحسد دفعهم إلى قبول التحدي وعمل أمور جيدة وتقديم أفضل ما يستطيعون تقديمه. أما لماذا يستطيع بعضهم تحويل الحسد إلى قوة دافعة إيجابية بينما يغرق الآخرون في تأسّيهم والإشفاق على أنفسهم بسببه، فإن بعض الخبراء، في إيضاحهم لهذا التساؤل، يعتقدون بأن بعضنا أكثر حساسية لما يعتقدونه غياباً للإنصاف والعدالة من بعضنا الآخر، وإن لهذا علاقة بصدمات حياتية سابقة، فقد وجدوا أن صدمات الطفولة يمكن أن تعمق الشعور بالحسد وتجذّره، إذ إن افتقار الطفل إلى التغذية العاطفية المناسبة والكافية يمكن أن يكون له تأثير سلبي على تكوين البنية الداخلية للطفل، ويؤدي إلى شعوره الدائم بفقدان شيء مفقود ليس بمقدوره الحصول عليه، ويمكن أن يصبح ذلك قاعدة للطمع الذي يحاول المرء من خلاله ملء هوة الفراغ مجهولة السبب التي تفغر فاها في وجدانه.
وفي بحثها المفصلي؛ "دراسة في الحسد والامتنان" (1955)، توصلت المحللة النفسية ميلاني كلاين، ذات التوجه الفكري الخاص ضمن التحليل النفسي، إلى أن الحسد موجود في الإنسان في مرحلة مبكرة جداً من حياته، من الرضيع الذي يخطو خطواته الأولى ويقوم بقلب مهد أخته المولودة حديثاً.. إلى الطفل الذي يتمرد استجابة للغيظ نحو ما يراه أفضلية لأخيه خصوصاً عند الوالدين. ولوقع الحسد في هذه السن المبكرة وآليات الدفاع ضده وسياقات التعاطي معه آثار بالغة الأهمية في حياة الراشد. وفي الطفولة، فإن حسد السمات الشخصية العامة لأحد الوالدين يظهر على شكل فقدان للتعلق بذلك الوالد - لذا فإن البعض يعتقد أن الحسد هو أحد العوامل الكامنة خلف التوحد (الذاتوية) -، والفارق هنا بين الكراهية والحسد هو أن الكراهية يمكن عدّها تعلقاً سالباً، بينما بمقدور الحسد تحييد أو تخريب التعلق تماماً طالما كان الطفل في موقع اللامساواة مع ذلك الوالد. وترى كلاين، التي أولت الحسد اهتماماً خاصاً مفهوماتياً وسريرياً، أن الحسد يغلق الطريق دون أي إمكانية لنشوء الحب وذلك عبر تحطيمه لكل ما هو خيّر وطيّب. وبذا يمكن أن تكون له عواقب جدية لا تخلو من مخاطر سواء أكان ذلك في الحياة الشخصية اليومية أم في عموم الساحة الاجتماعية والسلوك الاجتماعي. وبمقدور الحسد أن يتسبب في مصاعب جمة ويخلف آثاراً مقلقة في شخصية الراشد. وتعدّ كلاين الحسد من وسائل الدفاع الأولية المبكرة ضد تحطيم الذات المنسوب إلى دافع الموت، مما يجعله انفعالاً متأصلاً في الجبلّة.
ومن المشاعر المرافقة للحسد والناتجة عنه هو الشعور الظاهر أو الخفي الذي ينتابنا عندما يطرد المحسود مما نظنه نعيماً كان مقيماً فيه أو عندما يسقط من عليائه ويفقد ما كنا نحسده عليه. وقد أثار ذلك، خصوصاً في الآونة الأخيرة، اهتمام باحثين عديدين لدراسة العلاقة بين الحسد وSchadenfreude - وهي مفردة ألمانية أخرى تعني حرفياً "السرور المؤسف"، وربما كان أقرب معادل لها في العربية هو "الشماتة" -. وقد أسهم ذلك الاهتمام خصوصاً من قبل الباحثين والمعالجين النفسيين في إعادتهم من جديد إلى تفحص الحسد، الذي تربطه بالسرور المؤسف أو الشماتة كما أسلفنا علاقة وثيقة، بعيون سريرية. فأخذوا ينتجونه تحت ظروف تجريبية ويقومون بقياسه وتعرف مدى انتشار حدوثه. ويقول ريتشارد سميث نريد أن نعرف ما الذي يحفز كل ذلك الاهتمام بسوء طالع الآخرين وتعرضهم للكوارث. ففي إحدى الدراسات عُرضت نسختا شريط فيديو تظهر مرشّحَين للقبول في كلية الطب (أدى الأدوار فيهما ممثلون محترفون) على طلاب جامعيين، يظهر المرشح في النسخة الأولى شخصاً وسيماً واثقاً من نفسه بصورة مبالغ فيها (شايف حاله) ولديه سيارة رياضية فارهة وصديقة باهرة الجمال وعمل مهم في معهد معروف يقوم بأبحاث رائدة. بينما تُظهر النسخة الثانية مرشحاً عادياً بكل المقاييس يفتقر إلى الوسامة اللافتة وليس لديه سيارة أو صديقة وقد اتخذ تنظيف زجاج الأبنية عملاً له. وفي ختام كل نسخة عُرضت خاتمة أُخبر فيها المشاهدون أن المرشح في النسختين اتهم بسرقة حبوب مخدرة وإنه حُرم من القبول. وقد وُجد أن ما حلّ بالمرشح الأول آثار مشاعر قوية من "السرور المؤسف" لم يثر مثيلاً لها ما آل إليه مصير المرشح الثاني. وقد عدّ الباحثون ذلك مؤشراً إلى العلاقة المطردة في الشدة بين كل من الحسد و"السرور المؤسف" من جهة، كما أنه يشير إلى أن مشاهدة سقوط الأشخاص الذين نعدهم مهمين من عليائهم أكثر إمتاعاً من سقوط الأشخاص العاديين من الجهة الأخرى. وهذا ينسجم مع نتائج الدراسة اليابانية المذكورة آنفاً، إذ وجد القائمون عليها أن المشاركين عندما أعطوا فرصة تخيل سقوط من كانوا يحسدونهم من عليائهم، كانت مراكز الثواب والمتعة في الدماغ هي التي تستثار، وكانت شدة هذه الاستثارة تتناسب، هي الأخرى، طردياً مع شدة الحسد الذي كان يشعر به المشارك. ولا يشعر الجميع، كما هو متوقع، بالشماتة استجابة لذات الأحداث أو بذات الدرجة، وقد كشفت بعض البحوث عن أن الأشخاص ذوي التقدير المتدني للذات أكثر عرضة للشماتة من أولئك الذين يتمتعون بتقدير عال لذواتهم. وإذ يستمتع بعضهم بشماتته ويحتفي بها دون تحفظ، فإن آخرين سرعان ما يشعرون بالخزي منها وينجحون في إغلاق صنابيرها.
وبينما تبدو بعض الاستنتاجات آنفة الذكر واقعية، فإن سميث وسواه من الباحثين يحذرون من اعتمادها حقائقَ مفروغاً منها، لأن البحوث في مجال الحسد، كما يشيرون، لا تزال تخطو خطواتها الأولى من جهة، ولأن الأشخاص المستبيَنين في البحوث لا يكشفون دائماً عن المدى الحقيقي لحسدهم وذلك لما لكلمة حسد من وقع غير مرغوب به اجتماعياً إلى درجة أن كثيرين منهم ينكرون تماماً أن يكون لديهم أي شعور بالحسد من الجهة الأخرى. وفي واقع الحال، إذا ما قام أيّ واحد منّا بسؤال عدد من الأشخاص حوله عمّن يحسدون فإن الغالبية ستجيب، على الأرجح، بانزعاج قليل أو كثير؛ "حاشى أن يكون لدينا حسداً لأيٍّ كان!".

حواشي
(1) لعله من المناسب الإشارة هنا إلى أن كثيراً من مفردات اللغة الألمانية خصوصاً في مجالي علم النفس والفلسفة تمتلك معاني يصعب مجاراتها في اللغات الأخرى لذا فإن تلك المفردات يجري استعارتها واستخدامها كما هي في لغات العالم المختلفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011

الأرض والسمـاء


د. نبيل طعمة

ثمة في الفكر الإنساني القديم والقديم جداً، محاولات قام بها الإنسان لتحديد موقعه، أين هو؟ حيث تساءل: من خلال مسيره على أي شيء يسير؟.. كيف تكوَّن ومن أين تكوَّن وما المتكون تحته؟ وما حاجته إلى هذا التكوين؟ وما حاجة التكوين الذي تحته وفوقه وحوله، إليه؟ وكيف عرف أنها أرض تحته يسير عليها ، وسماءٌ فوقه يحتمي بها؟ وهل شاهد هذا كلّه وهو يهبط من جنان الخلد، فرأى ولأول مرة كرة لامعة بيضاء ممزوجة بزرقة، تدور في فَلَكِها المدهش فضاءً لا متناهياً، وأنهى مرة واحدة كل التساؤلات عن الأرض والقمر والشمس والسماء ودورانها إلى ما لا نهاية؟، أم أن هذه الحركات والأجرام لم تكن واضحة لذلك الإنسان إلى أن كبُر العقل، وكبُر التفكر ونشأ الفكر فأخذ البحث والتفكير في الموجود والمحيط، وبدأت الرؤيا تتضح رويداً رويداً بدءاً مما مضى من الأيام العميقة البعيدة، وإلى أن هبط الإنسان على سطح القمر عام ((1969 آرمسترونغ)) حين شاهد كوكبه، أرضه من بعيد، وأمعن النظر إليه وثبّت كل ما ورد من دراسات موغلة في الِقدَمْ، وعزز الاستكشاف الحقيقي عبر ثورة علمية إنسانية إعجازية خارقة.
لقد حاول الإنسان تخيُّل أرضه ومحيطه، وكان أول تَخَّيل وأنجزه على شكل خريطة بدائية. وجدت على لوح فخاري صُنِع في بلاد مابين النهرين حوالي /2500/ ق.م، حيث وُجدت عليه رسوم قرية صغيرة تطل من حافة جبل، على واد يجري نهر في عمقه، وكانت هذه الرسوم محدودة المعاني ومؤطرة بالحياة اليومية للأفراد.
ولئن دلَّ هذا على شيء، فإنما يِدلُّ على أن الإنسان حاول ويحاول، وعليه أن يحاول دائماً فهْم محيطه، فالبحث والنظر إلى ما نحن عليه لا يعني فقط أن نمد النظر إليه. فإذا كان هذا وحده فقط كان الأمر سواسية بين جميع الخلائق، فالكل يمدّ النظر. ولكن إن قلنا إننا نمتلك حاسة البصر وقوة النظر وهما اللذان يشكلان الفكر، الذي يدعو إلى التفكر والذي يبدأ من الأصغر ليصل إلى الأكبر، فلا نستطيع بلوغ الأقصى إن لم نتجاوز الأدنى.
فأقرب شيء إلينا وهو أرضنا... كوكبنا بعد امتلاكنا لنفسنا التي تعيش فينا وتحيينا والتي تشكّل بقربها منا وملاصقتنا لها مقرَّنا ومجال بحثنا وبناءنا الفكري والعقلي والجسدي، ومن ثم الهواء الذي يحيط بنا وبعده السماء التي تظلنا، هكذا نبدأ التفكر معاً، ونسأل أنفسنا: إلى ماذا نتطلع وبماذا نتفكر؟ وماذا نريد أن ننجب من التفكر؟ وإلى أين نريد أن نصل؟
إذن نستطيع القول الآن: إن الكوكب الذي نحيا عليه / كَكُرَةٍ / كرة أرضية. وهو الكلام المتداول في التعريف البديهي الأولي، ولكّن اسمها جنس مؤنث في اللغة، وجمعها أرضات وقد تكون "أرضون"، وأرض أريضة أي أرض زكية، وهي مركّبة من الجواهر المفردة، فلها أجزاء ومفاصل بالفعل موجودة بوجوداتٍ مغايرة لوجود الكل، كما هو شأن المركبّات الخارجية، وأرضنا ليست أرضاً صرفة، فلا تُرى بحكم كثافتها وامتزاجها بمكونات الحياة مع الماء والهواء، وأجزاء موجودة حقيقة مغطاة بالتراب، وترابها جنس لا يُثنَّى ولا يُجْمَع وسمة لونه ترابي.
إن العودة دائماً لقصة الأرض ووجود الإنسان والموجودات عليها، ومحيطها المتناغم مع بعضه، بحيث شكَّل صورة جميلة رائعة التكوين، والخلق المستمر عليها ومنها وإليها، وأنها الأم الولود ابتداءً، والحنون الحاضنة انتهاءً، والعلاقة مع الزمن والإشارة للفعل والتفاعل، والحركة المترافقة المتوافقة مع كل الموجودات ومن أعطـى الأمـر، هـي حقيقـة البحـث في فلسفـة التكوين الفكري، والذي كثيراً ما نحتاج إليه من أجل معرفة وجودنا، وفهم حركة التطور والتقدم إلى الأمام، لنستمر تطوراً وتقدماً وحمايةً لإنساننا وزمننا وأرضنا.
فعودتنا لفهم العلاقة التاريخية وقراءة تاريخنا، ليس نشرة إخبارية أو قصة نرويها لنستذكر ماضياً أو أن نُمضي وقتاً، وليس لنبتهج أو نحزن، بقدر ما هو بحث فلسفي في جوهر الماضي، وعدم فصل جوهر الماضي عن جوهر الحاضر كي يستمر الجوهر إلى المستقبل، مُستَكشَفاً من قِبَل القادمين الجدد إلى هذه الأرض.
فلنحدد وبأكثر ما يؤكد المسؤولية المطلوبة منّا للحفاظ على كوكبنا، ولنكن من الدقة والمسؤولية التاريخية المعززة بالعلمية التفكرية الإبداعية وكي يستمر الإبداع، بالانتباه إلى كوكبنا بمراقبة الماضي وإعادة دراسة التطور الهائل الذي حصل عليه، وما حدث له وشابَهُ من سلبيات وإيجابيات، كي لا يضيع منّا ولا يسقط في هاوية المجهول. فإن قرأناه تفادينا سلبياته وزدنا في إيجابياته، ليأخذ بيدنا زيادةً في التفكر الذي يؤدي بدوره إلى التطور.
فلننتبه: إن أرضنا هي الأنثى الحقيقية الوحيدة بكونها تحمل الماء والتراب وأسباب عيشنا وأدوات ومواد تطورنا، فهي /أمنا أمّ الكل، الكل.. الأحياء جميعاً/ ويجب أن لا نتطاول عليها بكوننا لا نعرف غيرها حتى الآن، وإننا لا نعرف أرضاً حيَّة غيرها، فهي الأرض الحيّة، الكوكب الحي حتى الآن وضمن المجرات الكونية، مجرتنا ومجموعتنا الشمسية والمجرات الأخرى.
فلماذا هي وحدها الحيَّة الوحيدة حتى الآن؟ لأنها تحمل الماء، والماء حياة، نحيا ونُحيي به ومنه، ولكن هل يكفي الماء فقط؟ هناك المحيط الهوائي والغلاف الجوي، علاقة حياة متكاملة لها عناصرها المترابطة، كالذرّة: نَواتها وبروتوناتها وإلكتروناتها فبدونها لا تكون ذرّة وكذلك الأرض بدون عناصرها لا تكون أرضاً. ولننتبه إلى أن كلمة أرض، تشير إلى جميع الأراضي الموجودة في كوننا بحال الجمع المتعدد، لتشمل الكواكب الأخرى غير الحية، والتي تتسارع رحلات الاستكشاف والأبحاث العلمية للوصول إليها واكتشافها، والتعرف إلى عوالمها، وهل هي حيّة أم لا؟
فإذا سلّمنا بالقَصَص العلمي الذي أشار إلى حادثة انفصال الأرض عن الشمس / من خلال ذلك الانفجار العظيم الهائل/ ثم برودتها وتصلبها وتكوّن بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوي، والنظر إلى سمائها وقمرها والكواكب المحيطة بها، والنظر والتدقيق في القَصَص الديني، وبأن السماء والأرض كانتا رتقاً ففُتِقَتا وفطرتا من خلال /حبة الفطر/ وملايين السنين التي احتاجاها تطوراً، والأيام الستة في إنجاز عملية الخلق والاستواء على العرش في اليوم السابع في المعرفة الإيمانية والانتقال من حال إلى حال معرفياً. وكيفية الظهور الأول للحياة على الأرض وأنه أتى من سطح الماء والمستنقعات وشواطئ المسطحات المائية التي كونت الطين الذي نتج عنه آلية انسحاب الماء تبخراً وانحساراً، وتشكل العفن المنتن الذي أدى إلى نشأة البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية، التي لم تكن معروفة أهي نبات أم حيوان، وأن الخلايا كانت أول الخلق.
إذن الإنسان هو نبتة الأرض كما النبتات التي نشأت من الطين اللازب والصلصال كالفخار والماء والتراب، وتكوَّن كما الكائنات المتناهية الدقة التي عاشت بعيدة عن الضوضاء وجلبتها، ورزقها متوفر رغداً من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وإننا مدعوون لدراستها، فهي أُمّنا ونحن أبناؤها وعلينا واجب حمايتها ورعايتها، وما أعظم المعنى في قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) فهي الفراش والمهاد، وهي الذلول لنمشي في مناكبها.
وفيها الجبال الرواسي أوتاداً كي لا تميد، وهي الواسعة لنعجز عن بلوغ كل أطرافها، مهما طالت أعمارنا وكثر تطوافنا وتجوالنا، لنتفكر في عجائبها فهي معاش للأحياء على ظاهرها، ومستقر لرفات الراحلين عنها، وهي الحية الغنية التي تقدّم كل مطالب الحياة بدون مقابل، وتنبت كل أنواع النبات، وكل أجناس الحيوان وتعطي كل ما تملك من حِلّي وجواهر وممتلكات ذهبية وفضية ونحاسية وبرونزية.. إلخ، وكل أنواع الطاقة وموادها الوفيرة من بلوتونيوم ويورانيوم ونفط وكبريت وقار. فلماذا الدراسة والتفكر في السماء والأرض وما بينهما، واختلاف الليل والنهار والفصول الأربعة واختلاف الشروق والغروب، والضوء والعتم والسواد والبياض والشفق.
أو ليس هذا كلّه قيماً توّلدُ لدى المتفكرين الفكر، وتعطي للعقول قيماً؟ وما غاية التفكر فيها وبمحيطها؟ أليس من أجل التطور الإنساني؟ فمَن مَلَكَ الفكرة مَلَكَ العِبرة، والعِبرة تأتي من الممارسة العملية لتكون الخبرة، والخبرة من التعمق في الشيء والبحث فيه، سئل السيد المسيح عليه السلام (يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك) فقال نعم: من كان منطقه ذِكراً، وصمته فكراً، ونظره عِبرة، فهو مثلي، ومن لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن صمته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.
وقال وهب بن منبه: (ما طالت فكرة امرئٍ قط إلا عَلِمَ، وما علم امرؤ قط إلا عمل). وقال الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإنكم لن تقدروا قدره) ، فالتفكر بالموجودات والتي هي الأرض وإنباتها والسماء ونجومها وكواكبها، والهواء وما يحمله يوصلنا إلى الموجد، كما التفكرِ في المصنوعات يوصل إلى الصانع.
إذن هي أرضنا، محمية بغلاف واقٍ سميك الطبقات: أوزونوسفير وستراسفير وتروبوسفير وأيونوسفير شفاف يرينا ولا يرى، نخترقه بالسلطان (العلم والأداة) ولا يخترقنا، يحمينا من الحرارة الحارقة والتجمد اللامتناهي، لنكون ضمن الشروط الطبيعية للحياة، وجاذبية لا تتوفر حتى الآن إلا على أرضنا فإذا تجاوزنا الغلاف فقدنا جاذبيتنا.
ودوران الأرض وتمايلها لتُشكل المشارق والمغارب، وتبختُرها في مسيرها كي يصل النور إلى كل نقطة فيها ولتدفئها الشمس بحنان في قطبيها، وبشدة على محورها الرئيس.
هي ذي إذن أرضنا، وفي المعنى الصحيح أرضنا الحية، فلا نستطيع أن نسمي أي أرض لا توجد عليها حياة بأنها أرض حية، كما ورد في آي الذكر الحكيم في الكتاب المكنون (يُخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميتَ من الحي) نتفكر ونطيل التأمل لتتولد الخبرة من العبرة، فنجد أننا نعيش ضمن البيضة، فإذا أخذنا مقطعاً عرضياً لبيضة، فماذا نجد؟ نجد صفاراً وهو الكرة الأرضية، وبياضاً يمثّل الهواء المحيط والحامل للأوكسجين وقشرة رقيقة هي الغلاف الجوي وقشرة سميكة تحمي كل شيء ضمنها تحمي الأوكسجين من الاختلاط والأشعة الكونية من النفاذ، والإعجاز الأعظم هو في ثبات الأرض أي دورانها في موقعها، فالمسافات بين الأرض والشمس والقمر أيضاً ثابتة، والدوران محسوب زمنياً، فمثلاً تقطع الشمس في دورانها 18 كم في الثانية، والقمر 15 كم في الثانية، والأرض 12كم في الثانية (الصفار ضمن هذه الأغلفة)، وذلك المحيط ويجسّد كيف أن الأرض ممسوكة ضمن أغلفتها، وطالما أننا نهيئ ظروفاً طبيعية وشروطاً نظامية نجد أن البيضة حية، كذلك علينا واجب المحافظة على كوكبنا بتوفير الشروط النظامية لحياتها فهي حية مثلنا ولكننا نحن نحميها بأن يسلّم بعضنا مهمة حمايتها.
إنها مسؤوليتنا، فهي التي أنجبتنا وعلينا المحافظة عليها، إن جنسنا الإنساني مسؤول عنها بكونها أيضاً جنسَ أنثى، وهي بالرغم من قوتها وعطائها فإنها اليوم أضعف وأقل عافية لقد دلت الدراسات السكانية على أن عدد سكان الأرض في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام كان في حدود مليوني نسمة، وبلغ لدى قدوم السيد المسيح عليه السلام ستمئة مليون نسمة، وفي عام 1900 كان ملياري نسمة، ويبلغ اليوم 6.5 مليار نسمة، فهذه الأرض واحدة ونحن مدعوون إلى خلق ثقافة يؤدي فهمها إلى خلق نمط تفكري علمي ناضج من خلال تأمين ظروف دراستها بشكل أعمق وأوضح، والتعمق فيها والتعلق بها، فهي التي تمنحنا تطور العقل من خلال عقلها الكبير ونتاجها الأكبر والأوفر من عقل الإنسان مجتمعاً وأوفر منه نتاجاً، فمن خلال عقل الأرض وعقل السماء، ينتقل العقل للإنسان من خلال التفكر فيهما، فإذا تأملنا في الأرض والسماء وما بينهما والموجودات في محيطنا وعلى أرضنا، تولدت لدينا الفكرة من خلال التأمل البصري في الشيء الذي يسكن العقل ليعيد إنتاجه فعلاً وإنجازاً، أليس التأمل في الطير أنجز الطائرة؟ والتأمل في الحوت أنجز الغواصة، والتأمل في البعوضة أنجز الهيلوكبتر؟ والتأمل في النور أنجز الإنارة؟ وهكذا فبكون أن الإنسان نبتةُ الأرض وكل شيء عليها هو من نبتها، إذن فإن عقلها أكبر وإلى ذلك يشير القول الكريم أيضاً في الكتاب المكنون قال تعالى: (اتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).
إن المدنية الحضارية المنجبة للتطور لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى مُفرد واحد، وهو أنها تأتي عادة بعد مرحلة التزاوج الهادئ بين الإنسان والأرض، ومن ثم التفكر فيها وفي محيطها وسمائها، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً في عملية أو عمليات إبداعية، تؤدي إلى التكوين الذي يؤدي بدوره إلى التجانس، ومنه تتولد الأمم وتتحضر فكرياً، لتسجل اسمها على كوكبها الحي، فتزيد في حياته وجماله والحفاظ عليه.
فإذا عرفنا أن المعنى الحقيقي للجغرافيا هو (علم وصف الأرض) وعرفنا كيف نصفها عرفنا كيف نتطور، وهذا يوضح لماذا يُلزَم كل العلماء والباحثين- حين يريدون الانطلاق والتقدم في علومهم- بأن يقوموا أولاً بدراسة كل شيء عن أرضهم (المُناخ، التربة، الماء، النبات، الحيوان، الموارد الطبيعية) وذلك لتحديد نوع الاقتصاد وقوته، وتوزّع السكان وتنوعهم، إلى تحديد السياج والحدود والسياسة وتخطيط المدن ونوعية وشكل الاستعداد للانتقال إلى المستقبل ومن ثم الذهاب إليه.
فدراسة الأرض، هذا الكوكب الكروي دراسةً للماضي والحاضر والمستقبل، وإن علاقتها مع الزمن الكبير الذي بدأ تسجيله من خلال الزمن الماضي والحاضر، والعيش على أمل الوصول في كل يوم إلى زمن المستقبل، وتخيّل زمن المستقبل كيف سيكون شكله، لونه، طعمه، حضوره، هو منجب للفكر الخيالي، الذي يصبح في الغد حاضراً وبعد الغد ماضياً، هذه العلاقة الإيجابية المستمرة منذ ملايين السنين، إلى أين ستصل، وهل ستبقى أرضنا لنا، وهل ستتسع لنا أم أن التقصي والكشف عن كواكب جديدة ربما سيقسمنا نصفين، وتصبح هناك كرتان أرضيتان؟ وهل هناك حياة خفية على كوكب آخر خفيٍ مجهولٍ، يحاول استكشافنا وغزونا، وغايته أن يحتل كوكبنا، أرضنا، بعد أن استنفد كل ما لديه في كوكبه: أرضه، ماءه وأوكسجينه ونباته، وما في باطن كوكبه كما نفعل نحن الآن، فالزيادة السكانية الهائلة واستنزاف الموارد وبشكل عنيف ومخيف، غايته إرضاء الذات البشرية، والأنا المسيطرة، والحروب والاستغلال البشع للإنسان من قبل أخيه الإنسان، والنهب المتواصل للثروات في باطنها، كالأم تعطي ابنها كلما يحتاج، ولكنّ طمعه أوصله لأن يسلب من جواهرها وحليّها، وسيأتي يوم تنفد الثروات وينفد معها كلُّ شيء.
إنها أرضنا.. كوكبنا يدور ليلاً ونهاراً، يمنحنا الراحة والسكينة وقوة الانطلاق للعمل، ويعطي للزمن قيمة، فتصبح لنا قيمة نترابط معه ويترابط معنا من خلال جاذبية ثلاثية نوعية الأرض، والإنسان، والزمن ننجذب لبعضنا لنشكل معاً ساعة ميناء وعقارب وأرقاماً مقسمة، تحدد لنا من خلال مسيرنا عمرنا ونتاجنا وتاريخنـا، إنهـا تخــاف علينا كي لا نضيع في الفراغ السلبي غير الجميل الذي لا جاذبية له ولا طعم ولا لون ولا وزن، فتجعل لنا وزناً يشدّنا إليها.
هي أمنا تتفقدنا على مدار الزمن فلا ترغب في ابتعادنا عنها رغم محاولاتنا استكشاف غيرها، فكم يجب أن نكون حذرين عليها وحذرين من الابتعاد عنها.
لنخفف قوة أقدامنا ولنمشِ الهوينا، فما أظن ويجب أن لا تظنوا معي بأن أديم الأرض والذي صيغ منه آدم وتستمر الصياغة إلاّ من هذه الأجساد. فهذا التراب الذي يغطي ظاهر الأرض من أين أتى؟، ألم يأتِ من رفات الذين قضوا ومضوا؟، ألم يحتضن ثرى هذه الأرض الذي نسير عليه رفات ألوف المبدعين والعباقرة البارعين والفلاسفة والموسيقيين المهرة؟، ألم يضم هذا الثرى عقولهم وأفكارهم التي أنجبت أعظم الحضارات وخوارق العلوم؟!
إنني أختم وأقول عن الأرض: لنتفكر من أين تنمو، لنلاحظ أين نزرع النبات ونجني الثمار ألا تتغذى هذه النباتات والثمار من عقول وأفكار من سبقونا ونحن اليوم نتغذى من أفكارهم، ألا نزرع في ذلك التراب ألا نبني على ذلك التراب، ألا نتحرك عليه؟، إننا نستنشق روائحهم ونحسّ وننمو من عقولهم، فهم تجمعوا، وفي كل زمن يتجمعون ليزيدوا في عقل الأرض الكبير والذي يمنحنا عقلاً، لنتفكر فالعقول التي تفكر. تفكر بنفس طريقة العقول المفكرة فلنتفكر.
إن المطلق يعلمنا أنه عند بزوغ فجر يوم جديد أي بظهور النظام الشمسي للوجود اليومي، وعلى كامل تقسيمات زمن الظهور على كوكبنا يحمل معه قوة العقل النسبي، وعند حلول الليل أي بحلول الراحة الكونية يتوارى الكون والعقل الكوني النسبي، ليبدأ التجلي العقلي في المطلق السرمدي كلّي الحضور والقدرة، ذلك الخفي الحاضر منه تصدر الأشياء وإليه تعود بعد انتهاء تطورها الكوني. إنه اتحاد العقل في مركبات الوجود من أجل التطور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011

شكل الكون من الأسطورة إلى الحقيقة


كتب: سائر بصمه جي:

لغة: كَوّنه فتكوّن: أحدثه فحدث، والكون: الحدث، والكائنة: الحادثة، والله مكون الأشياء: يخرجها من العدم إلى الوجود كما في اللسان. واصطلاحاً: هو اللفظ المستخدم للدلالة على كل ما حولنا، من النجوم التي نراها ليلاً في السماء، والتي تتجمع في مجموعات تعرف بالمجرات، إلى الفضاء الواقع بين هذه المجرات، وما يوجد به من غازات وغبار كوني، بالإضافة إلى أي شيء يقدر له الوجود وراء حدود ما نراه.
ولم يشعر الإنسان شعوراً حقيقياً بوجود الكون إلاّ في نهاية القرن الثامن عشر، عندما اكتشف أنه يسكن على سطح كوكب صغير، في مجموعة شمسية تمثل جزءاً من مجرة تحوي على ألوف الملايين من النجوم، وأن هناك مجرات مشابهة تقع في الفضاء، الذي يمتد وراء هذه المجرة، والتي عرفت في ذلك الحين باسم "الجزر الكونية".
يعرف علماء الفلك اليوم ما يزيد على مئة ألف مليون مجرة، تفصل كل مجرة عن الأخرى مساحة هائلة، وأقرب المجرات إلينا مجرة "المرأة المسلسلة" أو "الأندروميدا" وتفصلنا عنها مسافة تقدر بنحو مليوني سنة ضوئية، بمعنى: أن الشعاع الصادر منها والمنطلق بسرعة
000ر300 كم في الثانية لا يصل إلينا إلا بعد مليوني سنة، مما يدل على أننا لا نعرف شيئاً عن هذه المجرة الآن، فنحن نراها كما كانت في الماضي، وربما تكون قد انفجرت، أو اختفت في الفضاء.
وهذه الحقيقة محيرة إلى حد كبير، فنحن عندما ننظر إلى ما حولنا من نجوم أو مجرات، إنما نراها كما كانت في الزمن الماضي، كذلك أقرب نجم إلى مجموعتنا الشمسية ويدعى "ألفاسنتوري" تفصلنا عنه نحو 4.3 سنة ضوئية، أي تفصلنا عنه ملايين من الكيلومترات.
وبتقدم العلم والمعرفة توصل الإنسان بفكره إلى نظرية خاصة بنشأة هذا الكون، وهى تنص على أن كل ما يحويه هذا الكون من مجرات وغازات وسحب الغبار الكوني كانت ملتحمة معاً في زمن مغرق في القدم على هيئة كتلة مركزية شديدة التماسك والانضغاط، ثم انفجرت هذه الكتلة، وتناثرت شظاياها في جميع الاتجاهات، ثم تحولت بمرور الزمن إلى المجرات الحالية.

الكون هو كل ما يحيط بنا، من فضاء ونجوم ومجرات وكواكب وأقمار وغير ذلك. والكون كبير وضخم بشكل لا يمكن تخيله. لقد رسمت كل حضارة من الحضارات السابقة صورة للكون في أذهانها، عبّرت عن هذه الصورة برسومات تركتها لنا، لكن سرعان ما تتغير هذه الصورة عندما تتوفر أدوات الاكتشاف الجديدة للكون. لقد تطورت رؤيتنا للكون في هذه الأيام بفضل الجهود التي يبذلها علماء الفلك والكونيات، فالفلكيون يدرسون أجزاءً معينةً من الكون، بينما يحاول علماء الكون التعرف على أصل الكون ونشأته والمستقبل الذي سيؤول إليه.

في العصر الحجري
ترك الإنسان القديم الذي عاش في العصر الحجري القديم الأعلى، وما بعده، كمّاً هائلاً من نقوش العظام والعاج العصا الطويلة، ولعل أقدم ما يذكر قطعة الحصى التي عثر عليها في وادي الرافدين و المحززة باثني عشر خطَّاً، وقد فسّرها البعض أنها تشير إلى اهتمام فلكي في ذلك العصر.

الكون عند السومريين
يرى السومريون أن الصورة النهائية للكون قد انتهت إلى وضع هذا الكون كله في بحر لا متناه من المياه الأولية التي مازالت تمثل الآلهة السورية الأولى (نمّو). وأن هذا الكون يطفو مثل كرة عملاقة فوق هذه المياه.
الكون عند البابليين
لقد تصور البابليون أن الكون يتألف من مركز ثابت هو الأرض، والتي تبدو على هيئة جبل، يحمله البحر ويحيط به، أما الجبلان الموجودان في الشرق والغرب فهما ليسندا السماء ويمنعاها من السقوط. وتقع مملكة الموتى المظلمة الترابية داخل الأرض. وتنحني القبة الزرقاء الصلبة فوق الأرض وخلالها تتحرك الشمس، والقمر، والنجوم.
لكن البابليين وحدهم، من بين الشعوب القديمة، الذين درسوا علم الفلك بشكل علميّ نسبياً. ومع حلول عام 1500 ق.م. كانوا قد قدروا مواقع النجوم، وكان باستطاعتهم معرفة أوقات الكسوف و الخسوف.
الكون عند المصريين
رأى المصريون القدماء أن الأرض على هيئة إله مضجع، تغطيه النباتات، وتبدو السماء كأنها آلهة تنحني في لطف ورشاقة، يمسكها في الأعالي إله الجو، ويبحر إله الشمس الذي يظهر في المركبين كل يوم مسافراً عبر السماء إلى حيث ليل الأموات.
الكون عند الهنود
بحسب الأساطير الهندية ترتكز الأرض على عدد من الفيلة الواقعة فوق السلحفاة – تجسيداً للإله فشنو- ويسبب انتقال هذه الفيلة أو تبديلها حدوث الزلازل. وترتكز الفيلة بدورها على ثعبان الكوبرى – رمز الماء- .
بعض الشعوب الهندية كان لها اعتقاد آخر بشأن الكون. فالأرض هي جزيرة مستطيلة لها حواف مائلة وهي محاطة تماماً بمياه المحيط والبحر الذي تمخر عبابه السفن وتسبح في أعماقه الأسماك.
الكون عند النورسيين
في الأسطورة النورسية (النورسيون هم أجداد النرويجيين القدماء) فإن شجرة الرماد العالمية هي التي تحمل الكون. لهذه الشجرة ثلاثة جذور يصل أحدها إلى البئر الموجود قرب بيت الآلهة، والآخر للأرض، والثالث يذهب للتنين الموجود في العالم السفلي، حيث الموتى والشياطين.
أما بالنسبة لبيت الآلهة فإنه يقع فوق قوس قزح، ويقع أسفله غابة النار. ويطارد الذئبان في السماء كلاً من القمر الشمس خلال مسيرتهما في السماء العليا، وكأنهما يهربان من الذئبين. أما السماء الدنيا فيحملها أربعة من الأقزام الواقفين على الجبال العالية.
الكون عند الشعوب الأمريكية
لقد كان للسلحفاة دور هام في أساطير ثقافة ما قبل العصر الكولومبي في أمريكا الوسطى. فالأرض كانت في نظر قبائل المايا ترتكز على ظهر سلحفاة تسبح في البحر.
أما شعوب النافاجو، الذين عاشوا في الصحراء الحارة والجافة، فقد اعتقدوا أن الآلهة هي قوس قزح الذي يظهر في السماء، والسماء أبٌّ لقوس قزح يقوم بحراستها مستخدماً جنوده من الرياح الكبرى والصواعق الكبرى.
الكون عند اليونانيين
لقد أخذ اليونانيون معظم علومهم عن الحضارات السابقة، ونشأت لديهم حركة علمية كبيرة أفرزت عدداً كبيراً من العلماء والفلاسفة والمفكرين، الذين كان لكل واحد منهم رؤيته الخاصة للكون. إن مراقبة السماء تعطي فكرة عن حركة الأرض والنجوم التي عالجها اليونان وفقاً لنظرياتهم عن الكون.
• عند أريستارخوس
أكبر عالم فلك قدمته الحضارة اليونانية، وهو أول من قال بمركزية الشمس، قبل كوبرنيكوس بـ 18 قرناً. ولكن لأسباب غير معروفة، أمر أفلاطون بحرق جميع كتب أريستارخوس العلمية. ويقول بعض المؤرخين إن مستوى العلم والمعرفة كان سيتقدم قرنين أو ثلاثة لو كُتب لتلك الكتب البقاء.
• عند تالس
حتى قبل مجيء سقراط، كانت لدى اليونان فكرةً جميلةً عن الكون طرحها تالس في القرن السادس ق.م. وتتمثل فكرته بأن الأرض منبسطة طافية فوق الماء كسفينة تتقاذفها الأمواج مما يسبب الهزات الأرضية، ويبدو في الصورة أرخميدس في الوسط، وحوله العناصر الثلاثة الأخرى: التراب والنار والهواء. أما في الأعلى وعبر السماء فتتحرك الأبراج.
• عند أرسطو
مثّل إيدوكسوس تلميذ أفلاطون الكون على شكل كرات سماوية متشابكة ومتحركة. وذلك لشرح الحركات المختلفة للكواكب. كما تعتبر هذه النظرية من المعالم الرئيسة لصورة الكون عند أرسطو، وهي الانحراف الأكثر عمومية عن النظام البطليموسي.
• عند بطليموس
كان يعتمد بطليموس في نظامه على أن الأرض هي مركز الكون وكل شيء يدور حولها. وقد ألهمته هذا النظام إحدى الملهمات التسع (كما في الأسطورة اليونانية). وقد افترض في نظامه وجود كرات شفافة زجاجية تدور عليها الكواكب والنجوم والشمس والقمر. وباتباعه لمنهج أرسطو أصبح مهندس نظرية الكون وهو هنا يقيس ارتفاع القمر مع ملهمته.
لقد اقترح بطليموس نظامه، مدعّماً بالرياضيات، لحل المشكلات المتعلقة بالأنظمة الأخرى التي تم طرحها. واستطاع من خلال هذا النظام أن يفسر سبب تغير لمعان النجوم، وأن يصف جميع ما يخص حركات الكواكب بقدر كاف من الدقة.

الكون في الحضارة الإسلامية
تأثر العرب كثيراً - أول الأمر- بنظام بطليموس السائد، والذي وصلهم عن طريق ترجمة كتابه "المجسطي" . فنرى صورة الكون عندهم قد اعتبرت أن الأرض هي مركز الكون أيضاً، مع إضافة كرة خارجية أطلقوا عليها اسم (المحرك الأول) وهي تنقل الحركة إلى الكرات السماوية الأخرى، على حين تتحرك هي بالإرادة الإلهية.
• البتاني
17 أعظم فلكي في الحضارة العربية في القرن العاشر للميلاد. كرّس حياته كلها للرصد الفلكي من مدينة الرقة السورية. وقد وضع القانون الأساسي في علم الفلك الموقعي (قانون جيب التمام). كما اكتشف تغير أوج الشمس، ووصل لرقم تقريبي لترنح محور الأرض. كما أنه صمم أول تلسكوب فلكي للرصد ولكن بدون عدسات. استطاع من خلاله أن يرصد الكون بدون أشعة طفيلية تعكر الرؤية.
• ابن الشاطر الدمشقي
18 من أبرز علماء الفلك في الحضارة العربية ابن الشاطر الدمشقي(القرن 14م)، فقد أتى لأول مرة بنظرية مركزية الشمس في الكون، قبل كوبرنيكوس، وافترض أن الأرض مثل الكواكب تتحرك حول الشمس. وهي مخالفة صريحة لنظام بطليموس الذي ساد ردحاً من الزمن. وقد كشف بعض المؤرخين عام 1973 وجود مخطوطات لكتب ابن الشاطر في بولندا، يقال إن كوبرنيكوس كان يأخذ منها وينسب لنفسه ما فيها.
الكون في العصور الوسطى
تمخضت خريطة العالم في العصور الوسطى عن شكل أشبه بالقرص. وكان حرف (T) الذي يقسم هذا القرص إلى ثلاث قارات يمثل البحر المتوسط، ونهر الدون، والبحر الأحمر، بينما تقع القدس في المركز. وكان يعتقد أن جنة الخلد تقع في آسيا.
الكون كما تصورته الألمانية هيلداغارد بنغن، التي تبيّن كتابتها أن تدفق المعرفة في القرن الثاني عشر عدّل من صورة الكون المسيحية في العصور الوسطى، وهي صورة تطورت وبلغت الذروة في الكوميديا الإلهية لدى دانتي.
نظام الكون كما يمثله دانتي.
• كوبرنيكوس
لقد بقي العمل الذي قام به كوبرنيكوس بخصوص حركة الكواكب- والذي أكد فيه على نظرية أريستارخوس التي تقول بمركزية الشمس- طي الكتمان مدة أربعين عاماً، قبل أن ينشر عام 1543م. وذلك بسبب المعارضة الشديدة التي أبدتها الكنيسة وأتباع بطليموس تجاه أي نظرية تخالف فكرة مركزية الأرض.
نظرية كوبرنيكوس التي كانت ثورية في زمانها- لم تعد ذات قيمة في عصرنا- فنحن نعلم الآن أنه في الكون اليوم آلاف الملايين من المجموعات النجمية المتباعدة عن بعضها، حيث لا مركز هناك يجمعها، وليست الأرض سوى حبة رمل في هذا الكون الشاسع.
وقد عبر رسام من العصور الوسطى عن نظرية كوبرنيكوس بصورة رجل باحث يتفحص قبة السماء الثابتة مبهوراً بعظمة ما خلفها.
• تيكو براهي
في النصف الثاني من القرن 16م، كان ثمة رجل واحد فقط في أوربا كلها مؤهلاً ليقوم بمهمة تحويل ممارسات الرصد الفلكي إلى علم للرصد الفلكي، هذا الرجل ينتمي لعائلة دانمركية من النبلاء، اسمه تيكو براهي. وقد صمم تيكو الكثير من الآلات الفلكية التي كانت تساعده في عملية الرصد، وتطوير علم الفلكي الرصدي. وفي عام 1576م، وضع الملك فريدريك الثاني تحت تصرفه مرصداً كاملاً في جزيرة هفين حيث أنجز براهي أكبر عدد من الأرصاد الفلكية وأكثرها دقة خلال عشرين سنة.
لكنه وضع نظاماً غريباً (أرضي المركز- شمسي المركز) أسماه النظام التيكوني. فالأرض يجب أن تكون في مركز العالم، أي الشمس تدور حولها. وفي الوقت ذاته، يجب أن تدور الكواكب الخمسة حول الشمس.
• توماس ديغز
عندما أعيد نشر كتاب الدليل الفلكي الشعبي (التكهن الأبدي) والمعد من قبل ليونارد ديغز، نقح توماس ديغز كتاب أبيه وألحق به عملاً قصيراً أسماه (الوصف الكامل)، كما قام بتضمينه ترجمة لعدة مقاطع هامة من كتاب كوبرنيكوس (دوران الأجرام السماوية) و بإضافة مخطط وضعه بنفسه لكون متمركز حول الشمس، أضحى توماس ديغز رائداً لهذا النظام، خاصة و أنه كتب بالإنكليزية بدلاً من اللاتينية، وهذا ما أوصل أفكاره في الفلك إلى جمهور واسع.
وبدمج الفضاء اللامتناهي مع النظام الكوبرنيكي، وببعثرة النجوم عبر ذلك الفضاء، أصبح ديغز بالنسبة لعلم الفلك في القرن السادس عشر، رائد فكرة الكون غير المحدود الممتلئ بمزيج أشعة النجوم الهائلة العدد؛ وفضلاً عن ذلك، كان أول شخص يقوم بصياغة لغز الظلام، وإدراك أن الفجوات المظلمة بين النجوم المرئية تستوجب التفسير.
• يوهان كبلر
في عام 1600م، انضم يوهان كبلر للعمل مع تيكو براهي، ومع كثرة الفروقات التي كانت بينهما، إلا أن كل واحد منهما كان بحاجة للآخر. فكان كبلر يعرف أن بحوزة تيكو الكثير من الأرصاد التي ستمكنه من رسم صورة جديدة ومنسجمة للكون. وكان تيكو يدرك أن كبلر موهوب رياضياً ليثبت صحة نظامه التيكوني.
لكن ما حدث هو أن كبلر بقي على تأييده لنظام كوبرنيكوس، ولاحظ أن مدارات جميع الكواكب قطوع ناقصة، وليست دوائر. مما قاده لوضع قوانينه الثلاثة الأساسية في حركة الكواكب.
مخطط كبلر للكون الكوبرنيكي المحدود في كتابه (الكون الغامض،1596م)
• وليم جلبرت
في كتابه (الفلسفة الجديدة)، الذي نشر بعد وفاته، وضع الطبيب والفيزيائي الإنكليزي وليم جلبرت، تصوره عن الكون. فقد قبل بالشمس مركزاً للمنظومة الشمسية، وكرّس فكرة العوالم العديدة المأهولة. وعلى ما يبدو أنه متأثر بتوماس ديغز، وغيره من علماء عصره.
• غاليليو غاليلي
كان غاليليو أول فلكي يوجه تلسكوباً للسماء، كاشفاً عن خفايا الكون وأسراره التي ظلت مستترة عن العيون لقرون عديدة، ومبدلاً الصورة التي كانت مرسومة في الأذهان. ففي الفترة (1608-1610م) حقق غاليليو اكتشافات كثيرة منها: رؤيته لحلقات زحل وأقمار المشتري، وعرف أن الزهرة لا يظهر للأرض في أي من أوضاعه إلا بشكل هلال، أي بشكل غير مكتمل، واكتشف البقع الشمسية. وقد ضمّن اكتشافاته تلك في رسالته "حوار مع المراسل النجمي" . بالإضافة لتأكده من صحة نظام كوبرنيكوس، والقول بدوران الأرض حول الشمس. ونظراً للتعارض بين اكتشافاته والكتاب المقدس، فقد حُكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله حتى الموت.
26-1 لوحة خلق العالم، كما وردت في موسوعة روبرت فلد بين عامي (1617-1619)، وهو طبيب من لندن. حيث يقف فيها آدم و حواء في مركز الفردوس الأرضي وتحيط بهما الكرات السماوية وكرة النجوم الثابتة، التي تقع وراء جنة الخلد ذات النار الخالصة.
• إسحاق نيوتن
27 يعود الفضل لنيوتن بتوضيح القوى التي يتماسك بها الكون. وهي قوة الجاذبية أو قوة الثقالة الناشئة بين مكوناته. ولاشك فإن نيوتن استفاد من أعمال من سبقه من العلماء وخاصة غاليليو و كبلر ليصوغ نظريته في الجاذبية العامة للكون. وقد أصاب نيوتن عندما قال: إن الكون لا متناه في جميع الاتجاهات، بعكس ما كان سائداً ، حين افترض أرسطو أن الكون متناهياً و أيّده بذلك علماء القرون الوسطى.
27-1 نظام الكون لدى القدماء وفق كتاب (الكرات)؛ حيث يجمع هذا المخطط عناصر النظامين الأبيقوري والرواقي، ويمثل بشكل مقبول وجهة نظر نيوتن في الكون عندما كتب (الجاذبية) بين عامي (1666-1668) أثناء سنواته الأولى في كامبريدج.
الكون في القرن العشرين
• ألبرت أينشتاين
28 مع إطلالة القرن العشرين قُلبت صورة الكون رأساً على عقب. فقد أظهرت البحوث التي قام بها ألبرت أينشتاين في نظريته النسبية أن ما نراه من الكون هو ماضيه و ليس حاضره ، بسبب البعد الكبير الذي يقطعه الضوء حتى يصل إلينا من النجوم و المجرات. كما أن شكله محدب وليس مسطحاً كما كان يعتقد. واستطاع أينشتاين أن يفسر التجاذب الكوني بين الأجسام بشكل أكثر منطقية، وهو ما عجزت عنه نظرية نيوتن.
• إدوين هابل
29 لقد فتح هابل من خلال عمله، على مدى عشرين عاماً، أبواب الكون الواسع أمام الإنسانية. فهو أول من تحدث عن تمدد الكون عام 1929م، وليس ثباته كما كان يتوقع أينشتاين ذاته، وقد وصف هذا التمدد الكوني من خلال قانونه الشهير "قانون هابل". وقد أدت أرصاده من مرصد جبل ويلسون إلى الحسم القاطع بأن السدم اللولبية تقع خارج مجرتنا، وحدد مقاييس المسافات، وشدات الإضاءة للنجوم والمجرات، كما وضع معياراً لتصنيف المجرات لا يزال يستخدم حتى اليوم.
• نظرية الانفجار الأعظم
30 في عام 1948 نشر جورج غاموف مقالة، أصبحت تعرف فيما بعد باسم نظرية (غاموف – بيته – ألفر) أو (a , b , g). وهي التي تصف نظرية الانفجار الأعظم (Big Bang) لنشوء الكون. والتي تم التأكد من صحتها في الستينيات. وتتنبأ هذه النظرية أن الإشعاع الكهرطيسي المتبقي منذ تشكل الكون، يجب أن يكون - بعد تبرده مع تمدد الكون - كإشعاع خلفية كونية ذا طول موجي مكروي.
31 كما أن هذه النظرية تقول: بأن كوننا قد نشأ منذ 13.7 مليار سنة، وفق حدث هائل تمدد فيه من حجم رأس دبوس، إلى حوالي (2000 مرة) ضعف حجم الشمس، حيث درجة الحرارة (10000 مليون درجة مئوية)، ثم أخذ بالتبرد و تشكيل الذرات و الجزئيات ومادة الكون التي نعرفها اليوم.
32 ولا يزال يتمدد الكون حتى اليوم، حيث يستدل العلماء على ذلك من خلال ما يسمى بالإزاحة نحو الأحمر لطيف المجرات.
• نظرية الأكوان المتعددة (المتوازية)
33 لقد جنح خيال العلماء للقول بوجود أكوان أخرى غير كوننا هذا، أو عوالم أخرى موازية له، وقد انبثقت هذه الفكرة من عالم الميكانيك الكوانتي أو الكمومي، حيث يمكن وصف الجسيمات الأولية فقط كتجمعات احتمالية. حيث يستطيع العلماء القول باضمحلال الجسيم خلال 20 دقيقة، لكن لا يوجد طريقة تتنبأ بالضبط متى يحدث هذا الاضمحلال؛ وهو عدم اليقين في خواص الجسيم الذاتية. للتخلص من هذه الفوضى الظاهرية، اقترح بعض الباحثين وجود عدة احتمالات في وقت واحد، لكن بشكل متعدد، أكوان متوازية كل واحد فيها مستقل عن الآخر. وهكذا فإن جسيماً سيضمحل في دقيقة واحدة في كون ما، بينما في كون آخر سيضمحل بعد دقيقتين، وهكذا دواليك. وبنفس الطريقة، يمكن لبعض الأشخاص السفر عبر الزمن ليقتلوا أجدادهم، لكن هذه الأحداث بالتأكيد لن تسمح له بالعودة للظهور مرة أخرى. إن مفهوم الأكوان المتعددة يمكنه مساعدة الفيزيائيين للإجابة عن سؤال ماذا حدث لحظة الخلق. أي لحظة حدوث الانفجار الأعظم، أو ربما قبل الانفجار الأعظم !
الكون هبة الله لنا
34 هل خلق الكون من أجلنا فقط؟ ولماذا يعتقد الناس جميعاً فعلاً أنه قد خلق من أجلنا فقط ؟ هل لنرضي ذواتنا ؟ أم لنستدل من خلال تأملاتنا على عظمة الخالق المدبر لهذا الكون؟
تأتي الاكتشافات لتزيد من عمق إيماننا بعظمة وقدرة الخالق تبارك وتعالى.. إذا كان الإنسان منذ أقدم العصور، وحتى عصرنا الراهن لم يستطع أن يفهم أو يستوعب بعقله وفكره حدود الكون ونهاياته، فكيف له أن يحيط بخالق هذا الكون عزَّ وجلَّ..
ولا يزال الكون وصورته الحقيقية أحد الألغاز الكبرى التي يخوض غمارها الفكر البشري بكل ما أوتي من قدرة وإمكانيات. فهل عساه أن يصل لذلك الحل ؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 46 نيسان 2011

مواقع ما قبل التاريخ في سورية في العصر الحجري القديم

د. علي القيّم
من يتابع نتائج الكشوف والأبحاث الأثرية في عصور ما قبل التاريخ، يجد أن سورية، قد بدأت منذ الثلاثينات من القرن الماضي، مع اكتشافات مواقع إنسان «نياندرتال» في منطقة يبرود، تخضع إلى دراسات متنوعة مسحاً وتنقيباً، تشارك فيها بعثات وطنية وأجنبية كشفت عن العديد من المواقع الأثرية المهمة، وقد بلغ عددها المئات، بعضها كان له أهمية استثنائية كبرى كونه بقي سليماً رغم مرور مئات الآلاف من السنين، وقدّم دلائل باكرة للنار أو البناء أو الزراعة أو التدخين وغير ذلك من المبتكرات الأصلية، وقد أكدت هذه الاكتشافات على أن أرض سورية كانت وعلى امتداد عصور ما قبل التاريخ مركز تواجد إنساني مستمر وكثيف ساعد عليه مناخ معتدل وبيئة غنية بكل مقومات الحياة، إضافة إلى وجود خامات الصوّان بكميات وفيرة ونوعية جيدة وذلك في العديد من المناطق.. لذلك نجد آثار إنسان ما قبل التاريخ في كل مكان من سورية، في أحواض الأنهار الكبرى (النهر الكبير الشمالي- نهر العاصي- حوض وادي بردى- البليخ- الخابور- الفرات- البادية السورية- مغاور عفرين- سلسلة الجبال التدمرية- جبل سنجار- مغاور يبرود- سلسلة الجبال الساحلية...) وعلى شواطئ البحيرات والبحار، وقد أعطتنا هذه المناطق أفضل المعلومات عن التقلبات المناخية والبيئية في سورية، في الزمن الرابع، وكان لها أكبر الأثر على إنسان ذلك العصر، وقد ضمّت التشكيلات الجيولوجية الرباعية الكثير من آثار الإنسان الأول وبخاصة الأدوات الحجرية.
لم يعثر في سورية -حتى الآن- على آثار «إنسان الهوموهابيل» ورغم كثافة المنشورات والدراسات التي نشرت حديثاً على ضوء الأبحاث والمسوحات التي تمت في السنوات القليلة الماضية، فإن الصورة لا يزال يشوبها بعض الغموض، لأسباب كثيرة لعل من أهمها اختلاف الباحثين واختلاف مناهج عملهم ومصطلحاتهم واستخدام تسميات مختلفة لنفس الظواهر مما خلق إشكالات في فهمها، وقد لعب الأستاذ الدكتور سلطان محيسن دوراً كبيراً في تذليل كثير من الصعاب التي تعترض الباحث في بحثه عن آثار ما قبل التاريخ في سورية بشكل خاص وبلاد الشام بشكل عام، من خلال أبحاثه الميدانية ودراساته المهمة في هذا المجال، التي بدأنا من خلالها نلاحظ تحسناً واضحاً في مستوى الأعمال وشموليتها.
إن أقدم آثار الإنسان في سورية تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، أي إلى نحو مليون سنة واستمر حتى نحو (100,000) سنة خلت، وهذا العصر يرادف ما يسمى في أوربا بالحضارة الأشولية ذات الانتشار العالمي الواسع، والتي اشتهر الإنسان فيه بتصنيع الفؤوس اليدوية بشكل خاص، لقد تحرك هذا الإنسان إلى بلاد الشام قادماً من القارة الإفريقية، حيث وجدت الآثار الأقدم له، وقد عرف هذا الإنسان باسم «الهوموراكتوس» الذي سلك في طريقه إلى بلاد الشام خطين اثنين يشكلان ممرات طبيعية بين إفريقيا وآسيا، الأول ساحلي أي على امتداد سواحل البحر المتوسط، والخط الثاني داخلي على طول الانهدام السوري- الإفريقي الممتد من جنوب وشرق إفريقيا في الجنوب مروراً بالبحر الأحمر فوادي عربة، فوادي الليطاني وحتى نهر العاصي في سورية شمالاً.. ومعلوماتنا عن إنسان «الهوموراكتوس» نادرة نسبياً، وهي مستمدة بشكل خاص من الأدوات والأسلحة الحجرية التي صنعها وبقيت تشكل الدليل المادي المباشر عليه، وقد استخدمت هذه الأدوات في وظائف مختلفة تمركزت كلها حول الصيد والالتقاط، مصدر عيش ذلك الإنسان الرئيس، وكان أهم تلك الأدوات «الفأس اليدوية» وقد صنعت مجتمعات ذلك الزمن أنواعاً مختلفة منها كالقواطع والأدوات القاطعة والمتاحف، وقد تطورت هذه الأدوات مع الزمن سواء من حيث تقنيات تصنيفها أو أنماطها، ونجد نماذج منها في قسم ما قبل التاريخ من المتحف الوطني بدمشق.
طلائع هذا الإنسان عاش في سورية في الفترة الواقعة بين (1000,000) سنة و(700,000) سنة وهذه الفترة تعاصر ما يسمى بالعصر الأشولي القديم في بقية المناطق من العالم، ومن سورية تحركت تلك المجتمعات شرقاً إلى وسط وشرق آسيا، وشمالاً إلى أوربا، وقد أتت المواقع الممثلة لهذه المرحلة الباكرة من عصور ما قبل التاريخ من المناطق الساحلية لسورية ومن المناطق الداخلية أيضاً، فقد عثر في «ست مرخو» في السرير الأعلى لنهر الكبير الشمالي في محافظة اللاذقية على أقدم آثار لإنسان ما قبل التاريخ معروفة حتى الآن من خارج القارة الإفريقية، وقد عثر في هذا الموقع على مجموعة من الأدوات الحجرية تمثل، فؤوساً وقواطع ومعاول وسواطير وشظايا ونوى، وأنماط هذه الأدوات البدائية كانت مصنّعة بالمطرقة الحجرية الثقيلة والكمخة الكثيفة التي تحملها.
في نفس الوقت الذي سكن فيه الإنسان حوض النهر الكبير الشمالي كانت جماعات بشرية أخرى تجوب حوض نهر العاصي، وقد وجدت آثارها في منطقة خطاب إلى الغرب من مدينة حماة، وهي عبارة عن عدد قليل من الأدوات الحجرية الصغيرة كالشظايا والنوى والقواطع، ولكن لا وجود بينها للفؤوس اليدوية، مثل التي وجدت في موقع «ست مرخو» مما يدل على أن الجماعات البشرية التي سكنت حوض العاصي في ذلك الوقت كانت لها تقاليد حضارية مختلفة عن تقاليد الجماعات البشرية التي سكنت في حوض النهر الكبير الشمالي، إذ صنعت كل منطقة أدواتها وأسلحتها المختلفة، مما جعل علماء الآثار يتحدثون عن تقليدَين حضاريَّين متميزين، الأول اشتهر بصناعة الفؤوس اليدوية، بينما استخدم ممثلو التقليد الثاني الأدوات الصغيرة.
أما العصر الثاني الذي يؤرخ بين (700,000) إلى(250,000) سنة، فهو يرادف العصر الأشولي الأوسط في أوربا والعالم، وفي هذا العصر ازداد عدد سكان سورية، وتوضحت هويتهم الحضارية، فظهرت حضارات محلية أصلية تطورت بأشكال مختلفة في مختلف المناطق الساحلية والداخلية، وبقيت الأدوات الحجرية المؤشر الرئيس على مجتمعات هذه المرحلة، ولكن بدأت تظهر معطيات أثرية أخرى تصاعدت أهميتها باستمرار، فحصلت تجديدات مهمة سواء في تقنيات تصنيع الأدوات الحجرية أو في نمط الحياة، وتعمقت ابتكارات العصر السابق وأصبحت الأدوات أكثر دقة وتنوعاً، واستمرّ الاعتماد على الفأس اليدوية بعد أن طورّت وأخذت أشكالاً مختلفة، بعضها متطاول مدبب أو بيضوي أو على شكل مثلث أو قلب، وأصبحت الأدوات الصغيرة أكثر تنوعاً وعدداً، وقلّ عدد الأدوات الكبيرة القاطعة وبدأت بالظهور طرق جديدة في تصنيع الحجر، وأصبحنا في سورية نستطيع التحدث عن «المراكز الحضارية» التي عاشت فيها جماعات صنعت كل منها أدواتها الخاصة التي تطورت على امتداد زمن طويل، فبينما استخدم سكان الساحل السوري الفأس العريضة ذات الشكل البيضوي، فضّل سكان المناطق الداخلية الفأس اليدوية الطويلة والمدببة، وكان موقع «اللطامنة» الذي يبعد نحو/40/ كم غرب مدينة حماة، أهم موقع أثري معروف من هذا العصر-حتى الآن- حيث عثر ضمن الطبقات الأثرية فيه على بقايا معسكر بقي سلفاً رغم مرور أكثر من نصف مليون سنة عليه، وكشفت التنقيبات عن وجود أرضية سكن أصلية لم يلحق بها تخريب كبير، إذ بقي كل شيء كما تركه السكان الأوائل، وقد احتوى المعسكر على عدة آلاف من الأدوات الحجرية بينها فؤوس يدوية متطاولة وكبيرة، دقيقة الصنع، ندر أن وجد ما يشابهها من هذا العصر في العالم، وقد رافقت تلك الفؤوس معاول وقواطع وسواطير وأدوات متنوعة بعضها ثقيل وأخرى خفيفة، ووجدت في «اللطامنة» دلائل باكرة للبناء والنار، هي الأولى من نوعها في هذا المجال، وكشفت عن مجموعات منتظمة من الأحجار الكبيرة التي نقلت إلى الموقع من مقلع مجاور، وكانت هذه الأحجار تسند جدران أكواخ من الجلد والأغصان والأعشاب، تشبه خيام البدو التي مازالت تستخدم -حتى الآن- وهذا أقدم دليل في سورية ومن خارج إفريقيا، على قيام مجتمعات إنسان «الهومواركتوس» ببناء الأكواخ في العراء، وقد اعتمدت هذه المجتمعات التي كان يتراوح عددها في كل معسكر بين (10و15) شخصاً على اصطياد الحيوانات الكبيرة والمتوسطة (فيل- وحيد قرن- جمل- حصان- غزال...) كما التقطت الثمار البرية كاللوز والزعرور، مما كان ينمو في حوض العاصي الغني الذي كان يشبه الغابة.
المرحلة الثالثة، وتؤرخ بين (250,000 إلى 100,000) سنة خلت، وتوازي ما يعرف عالمياً بالعصر الأشولي الأعلى، وفي هذه المرحلة تابعت مجتمعات ما قبل التاريخ في سورية تطورها في مناطق جديدة تقع إلى الشرق من الانهدام السوري الإفريقي، فوصلوا إلى البادية السورية ونهر الفرات، وقد أصبح الإنسان في هذه المرحلة ينتمي إلى نوع متطور من «الهومواركتوس» في كل المناطق الجغرافية لبلاد الشام، ولم ينقطع العيش عن تلك المناطق حتى نهاية العصور الحجرية، وقد أضاف الإنسان في سورية في هذه المرحلة ابتكارات جديدة ومتنوعة فتابع التقدم في تصنيع الأدوات الحجرية، وحسّن تقنياتها وظهرت أنواع جديدة منها، ولكن الفؤوس اليدوية، بقيت في هذا العصر تلعب الدور الرئيس وتحتل المكانة الأولى بين مجمل الأدوات الأخرى، وكانت تلك الفؤوس أكثر دقة وتنوعاً، فقد استخدمت في صنعها مطرقة ناعمة من الخشب أو العظم، مما ساعد على استخراج أشكال منتظمة ودقيقة وجميلة، وساد في هذا العصر نوع واحد من الفؤوس على شكل اللوزة، أو القلب يمثّل تقليداً حضارياً واحداً غطى كل بلاد الشام، مما يدل على الوحدة الحضارية المتجانسة في صناعة الأدوات والمعرفة.. ويعد موقع «القرماشي» في حوض نهر العاصي في سورية أهم موقع من هذا العصر، حيث كُشف فيه عن معسكر نادر من نوعه وغير مخرب، سُكن من قبل جماعة بشرية صغيرة، تنتمي إلى نوع متطور من «الهومواركتوس» أقامت في الموقع لزمن قصير، تاركة بقاياها التي غطتها طبقة من التربة الحمراء، فحفظتها سليمة رغم مرور نحو /200,000/ سنة على هجر الموقع، وكانت الأدوات الصوانية سليمة وهي على شكل اللوزة أو القلب، وهناك أدوات قاطعة ومقاحف ومثاقب وأدوات مسننة تدل عل القيام بعمليات تصنيع الأدوات الحجرية في الموقع، وكما الحال في موقع «اللطامنة» فقد بني سكان «القرماشي» القدماء الأكواخ البسيطة التي دّلت عليها الأحجار المنتظمة التي بقيت في أرضية الموقع، وآثار المواقد تدل على استخدام النار بشكل جيد.
في الفترة الواقعة بين (150,000 إلى 80,000) سنة، حدثت في سورية تغيرات حضارية وربما عرقية، وعاصفة في تصنيع الأدوات وهناك ما يدل على قدوم جماعات بشرية جديدة واختفاء القديمة، وهناك ما يدل على تراجع الدور الهام المهيمن للفؤوس اليدوية، وبالتالي تقهقر الأقوام التي استخدمت تلك الفؤوس والتي سميت اصطلاحاً بالأشولية، وقد تقدمت الأدوات الخفيفة وحققت التقنية المسماة بـ «اللغلوازية» تقدماً ملحوظاً، ونلاحظ أن هذه التقنية قد اعتمدت على اختيار نوى دائرية ورقيقة، حُضّرت من كل جهاتها من أجل استخراج قطع ذات أشكال محددة سلفاً، ولكن التقنية «اللغلوازية» لم تبلغ أوجها إلا في العصر اللاحق وعلى يد إنسان «النياندرتال» وقد ازداد في هذا العصر استخدام الأدوات العظمية والخشبية।
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الباحثون العدد 46 نيسان 2011

المنسوجات




استخدمت المنسوجات في مصر القديمة لأغراض عديدة؛ من بينها الثياب والحقائب والأشرعة والحبال والشباك. وكانت المنسوجات المصرية القديمة تصنع أساسا من الكتان، وهو الذي يأتي من ألياف نبات الكتان. كما كانت تصنع من ألياف النخيل والحشائش والبذور، وبدرجة أقل؛ من صوف الغنم وشعر الماعز. وكانت ألياف الكتان تغزل، بعد فصلها من النبات، ثم تنسج خيوط الغزل على نول؛ لتتحول إلى قماش. وفي مصر الفرعونية كانت صناعة النسج مقتصرة على النساء العاملات على أنوال في ورش توجد عادة داخل المنازل أو القصور أو الضياع الكبيرة.

وكانت ألياف الكتان، بطبيعتها، ذات ألوان باهتة ذهبية أو بنية أو خضراء؛ إذا قطع محصول النبات في وقت مبكر. واستخدم قدماء المصريين المغرة (أكسيد الحديد المائي المخلوط بالطين) أو الأصباغ النباتية لتلوين المنسوجات؛ على الرغم من أن سليلوز النبات كان يجعل الصبغ صعبا. وتعطي المغرة للنسج اللون الأصفر أو البني المصفر أو الأحمر. وكانت المواد النباتية المستخدمة في الصبغ تشمل الوسمة (نبات عشبي) للون الأزرق، والفوة والقرطم للون الأحمر. واستخدم التبييض أيضا، لصناعة المنسوجات البيضاء التي كانت تعتبر رمزا للمكانة الاجتماعية الرفيعة، وللنظافة.

وبدأت الدولة، في العصر البطلمي، الإشراف على صناعة المنسوجات والرقابة على زراعة الكتان। وانتشرت المنسوجات المزدانة بالرسوم متعددة الألوان. وأصبحت الأقمشة المنقوشة تعرف بقماش "القباطي"، من كلمة "قبط"؛ بمعنى قبطي أو مصرى. وأقمشة القباطي معروفة بزخارفها التفصيلية المعقدة. وكانت الأقمشة في العصر الروماني تزخرف بأشكال آدمية وحيوانية، وكذلك التصميمات النباتية والهندسية. وشهدت المراحل التالية زيادة استخدام الرموز المسيحية؛ حيث أصبح التصوير لأشكال الإنسان والحيوان أكثر تجريدا. واستخدمت الأقمشة في الكنائس والأبنية العامة، كستائر؛ وكذلك كأغطية للأسرة، ومفروشات ومناشف وأغطية مناضد وأكياس وحقائب. وزاد استخدام وشيوع الصوف؛ إذ كان سهل الصبغ بالأصباغ النباتية.