2011-05-22

في سيكولوجية الحسد "الحاسد والمحسود وما بينهما


في أحد الأعياد يتصل بي مهنئاً، بعد طول انقطاع، زميل وصديق قديم مقيم في إحدى دول الغرب، وفي سياق ذلك يبيّن لي كم هو سعيد في عمله وزواجه وكيف يقضي هو وزوجته إجازاتهما في أماكن مثل جزر الهاواي ومونت كارلو وغيرها ويدعوني إلى زيارتهم في المنزل الذي يقع في ضواحي مدينة معروفة وفيه جناحان مخصصان للضيوف فضلاً عن تقديمه عرضاً لقضاء وقت ممتع في منزل الأسرة الريفي المطل على إحدى البحيرات، فلا تصدر مني سوى همهمة فاترة تفيد ما معناه، شكراً ومبروك عليك إن شاء الله أكثر وأكثر، بينما أردد مع نفسي ملتاعاً عبارة الأستاذ ياسر المالح، "يا حبيبي!". وأبقى لبعض الوقت تتآكلني مشاعر هي خليط من المرارة والضيق والإحباط. ولعل بمقدوري القول بأننا في الغالب نمرّ بشكل أو بآخر بما يشبه هذا الموقف الافتراضي، وعانينا كثيراً أو قليلاً من تلك الحالة المكدرة وما تبعثه فينا أحياناً من شعور بالذنب والخزي، والتي يطلق عليها Gluckschmerz وهي مفردة ألمانية تعني التعاسة الناجمة عن حسن طالع الآخرين(1)، والتي تجعل الحالة التي نحن بصددها تبدو على نحو ما أكثر عمقاً وذات بعد فلسفي شعري اكتئابي أكثر من كونها حسداً مجرداً. ويوافق أرسطو على ذلك بالقول إن "الحسد هو الألم الذي يبعثه فينا نجاح الآخرين".
ولذا يمكن القول إن الحسد هو نزوع المرء إلى رؤية رفاهية الآخرين محنةً شخصية له، حتى لو لم يكن فيها انتقاص من رفاهيته الشخصية. وكثيراً ما يعمي الحسد بصيرتنا فيحول دون رؤية حسن طالعنا نتيجة الانشغال بحسن طالع الآخرين، لأن المعيار الذي يستخدمه الكثير منّا في الحكم على ما نمتلك أو ما نحقق لا يتمثل في قيمتهما الحقيقية المجردة وإنما بالمقارنة مع ما يمتلكه الآخرون وما يحققونه. لذا فإن بعض الباحثين ينظرون إلى الحسد بحسبانه انفعالاً يستند إلى ما يسمى بنظرية "المقارنة الاجتماعية"، بمعنى أنه يعمل فقط في سياق مقارنة النفس مع الآخرين. والآخرون هم، في العادة، أشخاص قريبون منا شبيهون بنا، كما هو حال العاملين معنا في ذات المكتب أو المنتمين إلى نفس مهنتنا وما شاكل. والفارق الرئيس بين الحاسدين والمحسودين هو أن الأخيرين في وضع أفضل أو يتمتعون ببعض الامتياز وإن هذا الوضع أو الامتياز بعيدان عن متناول الحاسد أو هكذا يبدو الأمر بالنسبة له. وقد يتبادر إلى الذهن إننا عندما نحسد نظراءنا فإن لسان حالنا يقول؛ إن كان هو قادر فأنا الآخر بإمكاني أن أكون قادراً، ولكن تصور هذه الإمكانية ليس كافياً في أغلب الأحوال، لأن الحسد يتعلق بما هو كائن أو بما كان يجب أن يكون وليس بما يمكن أن يكون حتى وإن كان ممكناً.
وغالباً ما يتم الخلط بين مفهومي الحسد والغيرة واستخدام أحدهما بديلاً للآخر أو عدهما تسميتان لشيء واحد. ولكن الاستخدام الملائم يفرض علينا التفريق بينهما، فالغيرة تستثار استجابةً لعلاقة ثلاثية في الغالب، إذ إنها تنشأ عندما تتعرض علاقتك بشخص تحبه أو تهتم به إلى دخول غريم بينكما يهدد بسلبك ما تشعر إنه حقك الخاص، وقد يكون للغريم معالم أو صفات بإمكانها أن تثير أو لا تثير مشاعر الحسد لديك كذلك، ولكن عندما تشعر بالغيرة فإنك لست بحاجة إلى تكوين أية فكرة أو شعور لما يمتلك الشخص الثالث من صفات أو لا يمتلك. أما الحسد، من الناحية الأخرى، فإنه هو الآخر انفعال إلا أنه يخص طرفين؛ الحاسد والمحسود، ويقع غالباً بين الأقران. ويستثار الحسد عندما يقارن الشخص نفسه أو حاله أو ما يملك بشخصية أو بحال أو بما يملك شخص آخر، فإن رجحت كفة الآخر يكون ذلك مدعاة للشعور بعدم الرضا أو الضيق أو النقص أو الإحباط أو الغيظ بعضاً أو كلاً. وبالإمكان أن يكون الشخص حاسداً لأكثر من شخص واحد في أي وقت من الأوقات. وفي العادة يشتمل الحسد على الرغبة في الشكل الحسن والثروة والمكانة الاجتماعية أو / والاقتصادية التي تخص شخصاً آخر أو أكثر. والحسد والغيرة تنتجان عن موقفين مختلفين كما إنهما انفعالان متميزان أحدهما عن الآخر، وبينما تنتمي الغيرة إلى دوافع الجنس ينتمي الحسد إلى دوافع العدوان. وكل من الحسد والغيرة يجعلان الشخص يسعى إلى التواجد بين الآخرين، ولكن بينما تدفعه الغيرة نحو الانغماس في التعاطي الاجتماعي، فإن الحسد يجعل الشخص يكتفي بملاحظة الآخرين ومراقبتهم. إذ عندما يسيطر الحسد عليّ فإني أرغب في الجلوس على الرصيف مع فنجان من القهوة وأراقب خطوات العالم وهو يسير أمامي.
ومن الملاحظ أن الحسد درجات إذ يمكن أن يكون شعوراً هيّناً عابراً، وأحياناً، قريباً من الإعجاب أو كما يحصل عندما نغبط الآخر، تهويناً لمشاعرنا، على حسن طالعه. أو أن يكون حسداً مبطناً عندما تستحسن آنسة شكل أنف آنسة أخرى ولكنها تتبع ذلك بالتأكيد على أنه ناتج بدون أدنى شك عن جراحة تجميلية! أو أن يكون حسداً مترافقاً مع نوايا وأمنيات سيئة مثل، "دع بضع سنوات تمر وستجد المنخرين منطبقين على بعضهما!"، ولكي نخفف من وقع مشاعر الحسد على ضمائرنا نقوم بعقلنتها وتبريرها أحياناً بالقول، في سبيل المثال، لا بد أن يكون لدى زيد "واسطة" قوية لكي يحصل على هذه الوظيفة التي كنت أجدر منه بها. أو نلجأ في أحيان أخرى لإنكار حسدنا وتحريف حقيقة ما نشعر به، وذلك عندما ننظر إلى بيت كبير لأحدهم، في سبيل المثال مرة أخرى، ونقول لأنفسنا نحن بالتأكيد لا نرغب بمثل هذا البيت لأنه يكلف ثروة لمجرد تدفئته وإدامته، وهو ذات الموقف الذي يلخصه المثل الشعبي القائل، "اللي ما ينوش العنب يكول حامض". وهذا التقليل من شأن ما يحتازه الآخر بإمكانه أن يخفف من انزعاجنا. ولكن لو اقتصر الأمر على الانزعاج لهان الأمر، إذ وجد ريتشارد سميث، أستاذ علم النفس في جامعة كنتاكي في تحليله لعدة دراسات عن الحسد، أن هناك مجموعة لا يستهان بها من التأثيرات السلبية للحسد على الصحة النفسية، مشيراً إلى وجود علاقة مطردة بين شدة الحسد واضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق والرهاب وغيرها. وتشير دراسة أخرى للحسد في أماكن العمل إلى أن الأشخاص الأشد شعوراً بالحسد هم الأكثر تبطلاً وتسكعاً ومداهنة، إذ يجدون في انتهاجهم هذا الأسلوب العدواني السلبي، في المداهنة والتهرب من والواجبات، وسيلةً مناسبة للتعادل مع المحسودين أو التساوي معهم، "أنت أعظم رئيس عمل ولكني أنا أيضاً عظيم لأني قادر على عدم الالتزام بما تريده !". بينما وجدت دراسات أخرى أن الحاسدين غير قادرين على الشعور بالامتنان للآخرين، بل إن بعضهم يشعر بالضيق والامتعاض عندما تُمدّ له يد المساعدة، وربما كان ذلك أساساً للمأثور الشعبي القائل؛ "اتق شر من أحسنت إليه". وفي حالاته المتطرفة بإمكان الحسد أن يدفع المرء إلى أن يصبح قاتلاً، وتقدم لنا قصة قتل قابيل هابيلاً مثالاً صريحاً على ذلك.
وهناك الكثير من البصيرة الثاقبة في الصور والتمثيليات التي أوردتها الأعمال الأدبية والفنية حول الحسد والحاسدين التي ينظر إليها على أنها دراسات معمقة في الحسد، إذ لدينا، في سبيل المثال لا الحصر، اياكو في عطيل وكلاكارت في بيلي بُد واورياه هيب في ديفيد كوبرفيلد. وفي الشريط السيمي " Seven " من إخراج ديفيد فينشر (1995) يختار القاتل المتسلسل كل خطيئة من الخطايا المهلكة السبع قاعدةً لجرائمه، محتفظاً بالخاتمة لأشد الخطايا سوءاً ممثلة في الحسد. ومن المثير للانتباه أن شريطاً أحدث هو " AI " أو "الذكاء الصنعي" من إخراج ستيفن سبيلبرغ (2001) تضمن قصة تتفحص طبيعة الحب، ومع أن الغيرة قد استكشفت فيه ضمناً، ولكن إهمال أي معالجة جادة للحسد كان سبباً أساسياً في التقليل من نجاح الشريط الفني والجماهيري. ويمكن القول إن الحسد كان المحور الرئيس الذي دارت حوله أحداث شريط Amadeus، من إخراج ميلوش فورمان (1984) والمأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لبيتر شافنر، إذ يظهر اكتواء سالييري بنيران حسده الخاص لموزارت. ولعل معظم مشاهدي الشريط على الرغم من انحيازهم إلى موزارت، الذي كان جاهلاً بما يعانيه سالييري نتيجة حسده، شعروا بالإشفاق على سالييري وربما بالتعاطف معه في عذابه، والسبب في تقديرنا هو أن في أعماق كل واحد فينا يوجد سالييري مصغر أو "ميني سالييري" لذا كنا وكأننا نرى في مرآة معاناته بعضاً من انعكاس نفوسنا.
ويحاول الباحثون الآن اكتساب بعض البصيرة فيما يخص الأصول العصبونية والنشوئية للحسد، ولِمَ يستشعره المرء وكما لو كان علّة بدنية. ففي مقالة نشرت أخيراً في مجلة ساينس عرض باحثون من المعهد الوطني للعلوم الشعاعية في اليابان دراسات تفرسية قاموا بها لأدمغة أشخاص قيل لهم أن يتخيلوا أنفسهم في مواقف درامية اجتماعية ويمثلون شخصيات ذات مكانة اجتماعية وإنجازات متباينة. وعند مواجهتهم للشخصيات التي يقرّ المشاركون بأنهم يحسدونها، وجد أن ذلك يحفز نفس المناطق التي تقدح عند تعريض الشخص إلى ألم بدني. وكلما ارتفعت تقديرات المشاركين لحسدهم زاد قدح مناطق تحسس الألم في الدماغ.
وفيما يشير السيكولوجيون النشوئيون إلى أنه على الرغم من أن الحسد يبدو للوهلة الأولى انفعال يرتبط بسوء التكيف، وإن جانباً مهماً من الشعور الذاتي بالمحنة، فضلاً عن القلقلة في أماكن العمل والغريمية بين الإخوة، يعود إلى هذا الانفعال، فإنه من منظور آخر بإمكان الحسد أن يكون كلّي القدرة وذو سلطان بقدر ما هو غير مرغوب به اجتماعياً، فقد وجد أن الأطفال، ومنذ وقت مبكر كما هو حال الراشدين، سرعان ما يكونون قادرين على ملاحظة الافتقار إلى العدالة أو إلى الإنصاف، إذ إن تعرف الأفضلية التي يتمتع بها الآخرون والمعاناة من اللا إنصاف والرغبة العدوانية التي تلحق بهما أحياناً هي من المعالم المميزة للكينونة الإنسانية.
ولكن على الرغم من سمعته التي جعلته كريهاً مذموماً فإن الحسد على الأرجح أدى دوراً هاماً في بحث البشر عن الموارد الضرورية للبقاء الناجح والتكاثر على امتداد الزمن النشوئي. ويوضح ديفيد بوص، الباحث النشوئي، ذلك بالقول أن لا احد قادر على انكار ما بمقدور الحسد إلحاقه من ضرر بالشعور الذاتي بالعافية، ولكن إذا ما سلمنا بصدقية الطبيعة التنافسية للبشر في المشهد الاجتماعي، فإنه من المرجح أن يكون الذهن البشري محتوياً على عدد من السمات الاجتماعية التي منحت أسلافنا القدرة على الأداء الكفوء مقارنة بمنافسيهم. وإحدى هذه السمات التي تمت دراستها بصورة مستفيضة من قبل الباحثين كانت العمليات النفسية المسؤولة عن المقارنات الاجتماعية. إذ عندما يجري تنافس للحصول على مورد نادر فإن السياق السلوكي الحرج الأكثر ملائمة للأفراد عندها لا يعتمد على نوعية تميز الكيفيات والمواهب التي يتمتع بها الفرد ذاته فحسب، ولكن أيضاً على تلك التي يتمتع بها المنافسون الاجتماعيون المعنيون في ذات الساحة الاجتماعية. لذ فمن المرجح أن يكون الأشخاص الذين لم يشعروا بالانزعاج من تفوق الآخرين في تلك المواقف على امتداد الزمن النشوئي قد خسروا الرهان التنافسي وتم التغلب عليهم من قبل أفراد مجتمعهم الأكثر شعوراً بالحسد. إذ كما يقول بوص على الرغم مما يسببه الحسد من كدر فإن هذا النوع من الكدر الاجتماعي يعمل على تحفيز الفعل التكيفي. لذا فإن الانتقاء قد كون على الرجح مجموعة غنية من التكيفات الذهنية لدى الفرد مصممة للمحافظة على لياقته التنافسية بما يبقيه موازياً لمنافسيه. وإحدى توقعات وجهة النظر النشوئية في ذلك هي أن خبرة الحسد لدى شخص استجابة لأفضلية يتمتع بها آخر يمكن أن تكون تنبيهاً ملائماً له حول تلك الأفضلية مما يحفزه على اتخاذ الإجراء الملائم لتصحيح هذا الخلل أو على الأقل السعي نحو تصحيحه. وإن معرفة ما الوظيفة التي صُمم الحسد لأدائها يمكن أن تؤدي إلى فتح أبواب جديدة للبحوث في كيفية تدبر مشاعر الحسد ومواجهة جوانبها السلبية. وفي هذا السياق فإن معرفة ما الذي صمم الحسد لعمله يعني أن الأشخاص الذين يرغبون في التعامل الكفء مع حسدهم يفضل أن يتعرفوا الأفضلية التي يمتلكها الآخر الذي يحسدون والتي يرغبون تحقيقها لأنفسهم ومن ثم رسم مساق عملي يضعهم على درب بلوغ تلك الغاية بأنفسهم. وبدلاً من الدخول في صراع واستحداث تقانات للتعاطي مع منغصات الحسد فإن الأفضل للشخص أن يبحث عن حل للمشكلة التي نبهه إليها الحسد، على وفق القاعدة القائلة بأن أفضل علاج لوجع السن يتمثل في إزالة التسوس.
ويشير بعض الأشخاص، الذين استبينوا في بعض الدراسات، إلى أن الحسد دفعهم إلى قبول التحدي وعمل أمور جيدة وتقديم أفضل ما يستطيعون تقديمه. أما لماذا يستطيع بعضهم تحويل الحسد إلى قوة دافعة إيجابية بينما يغرق الآخرون في تأسّيهم والإشفاق على أنفسهم بسببه، فإن بعض الخبراء، في إيضاحهم لهذا التساؤل، يعتقدون بأن بعضنا أكثر حساسية لما يعتقدونه غياباً للإنصاف والعدالة من بعضنا الآخر، وإن لهذا علاقة بصدمات حياتية سابقة، فقد وجدوا أن صدمات الطفولة يمكن أن تعمق الشعور بالحسد وتجذّره، إذ إن افتقار الطفل إلى التغذية العاطفية المناسبة والكافية يمكن أن يكون له تأثير سلبي على تكوين البنية الداخلية للطفل، ويؤدي إلى شعوره الدائم بفقدان شيء مفقود ليس بمقدوره الحصول عليه، ويمكن أن يصبح ذلك قاعدة للطمع الذي يحاول المرء من خلاله ملء هوة الفراغ مجهولة السبب التي تفغر فاها في وجدانه.
وفي بحثها المفصلي؛ "دراسة في الحسد والامتنان" (1955)، توصلت المحللة النفسية ميلاني كلاين، ذات التوجه الفكري الخاص ضمن التحليل النفسي، إلى أن الحسد موجود في الإنسان في مرحلة مبكرة جداً من حياته، من الرضيع الذي يخطو خطواته الأولى ويقوم بقلب مهد أخته المولودة حديثاً.. إلى الطفل الذي يتمرد استجابة للغيظ نحو ما يراه أفضلية لأخيه خصوصاً عند الوالدين. ولوقع الحسد في هذه السن المبكرة وآليات الدفاع ضده وسياقات التعاطي معه آثار بالغة الأهمية في حياة الراشد. وفي الطفولة، فإن حسد السمات الشخصية العامة لأحد الوالدين يظهر على شكل فقدان للتعلق بذلك الوالد - لذا فإن البعض يعتقد أن الحسد هو أحد العوامل الكامنة خلف التوحد (الذاتوية) -، والفارق هنا بين الكراهية والحسد هو أن الكراهية يمكن عدّها تعلقاً سالباً، بينما بمقدور الحسد تحييد أو تخريب التعلق تماماً طالما كان الطفل في موقع اللامساواة مع ذلك الوالد. وترى كلاين، التي أولت الحسد اهتماماً خاصاً مفهوماتياً وسريرياً، أن الحسد يغلق الطريق دون أي إمكانية لنشوء الحب وذلك عبر تحطيمه لكل ما هو خيّر وطيّب. وبذا يمكن أن تكون له عواقب جدية لا تخلو من مخاطر سواء أكان ذلك في الحياة الشخصية اليومية أم في عموم الساحة الاجتماعية والسلوك الاجتماعي. وبمقدور الحسد أن يتسبب في مصاعب جمة ويخلف آثاراً مقلقة في شخصية الراشد. وتعدّ كلاين الحسد من وسائل الدفاع الأولية المبكرة ضد تحطيم الذات المنسوب إلى دافع الموت، مما يجعله انفعالاً متأصلاً في الجبلّة.
ومن المشاعر المرافقة للحسد والناتجة عنه هو الشعور الظاهر أو الخفي الذي ينتابنا عندما يطرد المحسود مما نظنه نعيماً كان مقيماً فيه أو عندما يسقط من عليائه ويفقد ما كنا نحسده عليه. وقد أثار ذلك، خصوصاً في الآونة الأخيرة، اهتمام باحثين عديدين لدراسة العلاقة بين الحسد وSchadenfreude - وهي مفردة ألمانية أخرى تعني حرفياً "السرور المؤسف"، وربما كان أقرب معادل لها في العربية هو "الشماتة" -. وقد أسهم ذلك الاهتمام خصوصاً من قبل الباحثين والمعالجين النفسيين في إعادتهم من جديد إلى تفحص الحسد، الذي تربطه بالسرور المؤسف أو الشماتة كما أسلفنا علاقة وثيقة، بعيون سريرية. فأخذوا ينتجونه تحت ظروف تجريبية ويقومون بقياسه وتعرف مدى انتشار حدوثه. ويقول ريتشارد سميث نريد أن نعرف ما الذي يحفز كل ذلك الاهتمام بسوء طالع الآخرين وتعرضهم للكوارث. ففي إحدى الدراسات عُرضت نسختا شريط فيديو تظهر مرشّحَين للقبول في كلية الطب (أدى الأدوار فيهما ممثلون محترفون) على طلاب جامعيين، يظهر المرشح في النسخة الأولى شخصاً وسيماً واثقاً من نفسه بصورة مبالغ فيها (شايف حاله) ولديه سيارة رياضية فارهة وصديقة باهرة الجمال وعمل مهم في معهد معروف يقوم بأبحاث رائدة. بينما تُظهر النسخة الثانية مرشحاً عادياً بكل المقاييس يفتقر إلى الوسامة اللافتة وليس لديه سيارة أو صديقة وقد اتخذ تنظيف زجاج الأبنية عملاً له. وفي ختام كل نسخة عُرضت خاتمة أُخبر فيها المشاهدون أن المرشح في النسختين اتهم بسرقة حبوب مخدرة وإنه حُرم من القبول. وقد وُجد أن ما حلّ بالمرشح الأول آثار مشاعر قوية من "السرور المؤسف" لم يثر مثيلاً لها ما آل إليه مصير المرشح الثاني. وقد عدّ الباحثون ذلك مؤشراً إلى العلاقة المطردة في الشدة بين كل من الحسد و"السرور المؤسف" من جهة، كما أنه يشير إلى أن مشاهدة سقوط الأشخاص الذين نعدهم مهمين من عليائهم أكثر إمتاعاً من سقوط الأشخاص العاديين من الجهة الأخرى. وهذا ينسجم مع نتائج الدراسة اليابانية المذكورة آنفاً، إذ وجد القائمون عليها أن المشاركين عندما أعطوا فرصة تخيل سقوط من كانوا يحسدونهم من عليائهم، كانت مراكز الثواب والمتعة في الدماغ هي التي تستثار، وكانت شدة هذه الاستثارة تتناسب، هي الأخرى، طردياً مع شدة الحسد الذي كان يشعر به المشارك. ولا يشعر الجميع، كما هو متوقع، بالشماتة استجابة لذات الأحداث أو بذات الدرجة، وقد كشفت بعض البحوث عن أن الأشخاص ذوي التقدير المتدني للذات أكثر عرضة للشماتة من أولئك الذين يتمتعون بتقدير عال لذواتهم. وإذ يستمتع بعضهم بشماتته ويحتفي بها دون تحفظ، فإن آخرين سرعان ما يشعرون بالخزي منها وينجحون في إغلاق صنابيرها.
وبينما تبدو بعض الاستنتاجات آنفة الذكر واقعية، فإن سميث وسواه من الباحثين يحذرون من اعتمادها حقائقَ مفروغاً منها، لأن البحوث في مجال الحسد، كما يشيرون، لا تزال تخطو خطواتها الأولى من جهة، ولأن الأشخاص المستبيَنين في البحوث لا يكشفون دائماً عن المدى الحقيقي لحسدهم وذلك لما لكلمة حسد من وقع غير مرغوب به اجتماعياً إلى درجة أن كثيرين منهم ينكرون تماماً أن يكون لديهم أي شعور بالحسد من الجهة الأخرى. وفي واقع الحال، إذا ما قام أيّ واحد منّا بسؤال عدد من الأشخاص حوله عمّن يحسدون فإن الغالبية ستجيب، على الأرجح، بانزعاج قليل أو كثير؛ "حاشى أن يكون لدينا حسداً لأيٍّ كان!".

حواشي
(1) لعله من المناسب الإشارة هنا إلى أن كثيراً من مفردات اللغة الألمانية خصوصاً في مجالي علم النفس والفلسفة تمتلك معاني يصعب مجاراتها في اللغات الأخرى لذا فإن تلك المفردات يجري استعارتها واستخدامها كما هي في لغات العالم المختلفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011

ليست هناك تعليقات: