2011-05-22

مواقع ما قبل التاريخ في سورية في العصر الحجري القديم

د. علي القيّم
من يتابع نتائج الكشوف والأبحاث الأثرية في عصور ما قبل التاريخ، يجد أن سورية، قد بدأت منذ الثلاثينات من القرن الماضي، مع اكتشافات مواقع إنسان «نياندرتال» في منطقة يبرود، تخضع إلى دراسات متنوعة مسحاً وتنقيباً، تشارك فيها بعثات وطنية وأجنبية كشفت عن العديد من المواقع الأثرية المهمة، وقد بلغ عددها المئات، بعضها كان له أهمية استثنائية كبرى كونه بقي سليماً رغم مرور مئات الآلاف من السنين، وقدّم دلائل باكرة للنار أو البناء أو الزراعة أو التدخين وغير ذلك من المبتكرات الأصلية، وقد أكدت هذه الاكتشافات على أن أرض سورية كانت وعلى امتداد عصور ما قبل التاريخ مركز تواجد إنساني مستمر وكثيف ساعد عليه مناخ معتدل وبيئة غنية بكل مقومات الحياة، إضافة إلى وجود خامات الصوّان بكميات وفيرة ونوعية جيدة وذلك في العديد من المناطق.. لذلك نجد آثار إنسان ما قبل التاريخ في كل مكان من سورية، في أحواض الأنهار الكبرى (النهر الكبير الشمالي- نهر العاصي- حوض وادي بردى- البليخ- الخابور- الفرات- البادية السورية- مغاور عفرين- سلسلة الجبال التدمرية- جبل سنجار- مغاور يبرود- سلسلة الجبال الساحلية...) وعلى شواطئ البحيرات والبحار، وقد أعطتنا هذه المناطق أفضل المعلومات عن التقلبات المناخية والبيئية في سورية، في الزمن الرابع، وكان لها أكبر الأثر على إنسان ذلك العصر، وقد ضمّت التشكيلات الجيولوجية الرباعية الكثير من آثار الإنسان الأول وبخاصة الأدوات الحجرية.
لم يعثر في سورية -حتى الآن- على آثار «إنسان الهوموهابيل» ورغم كثافة المنشورات والدراسات التي نشرت حديثاً على ضوء الأبحاث والمسوحات التي تمت في السنوات القليلة الماضية، فإن الصورة لا يزال يشوبها بعض الغموض، لأسباب كثيرة لعل من أهمها اختلاف الباحثين واختلاف مناهج عملهم ومصطلحاتهم واستخدام تسميات مختلفة لنفس الظواهر مما خلق إشكالات في فهمها، وقد لعب الأستاذ الدكتور سلطان محيسن دوراً كبيراً في تذليل كثير من الصعاب التي تعترض الباحث في بحثه عن آثار ما قبل التاريخ في سورية بشكل خاص وبلاد الشام بشكل عام، من خلال أبحاثه الميدانية ودراساته المهمة في هذا المجال، التي بدأنا من خلالها نلاحظ تحسناً واضحاً في مستوى الأعمال وشموليتها.
إن أقدم آثار الإنسان في سورية تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، أي إلى نحو مليون سنة واستمر حتى نحو (100,000) سنة خلت، وهذا العصر يرادف ما يسمى في أوربا بالحضارة الأشولية ذات الانتشار العالمي الواسع، والتي اشتهر الإنسان فيه بتصنيع الفؤوس اليدوية بشكل خاص، لقد تحرك هذا الإنسان إلى بلاد الشام قادماً من القارة الإفريقية، حيث وجدت الآثار الأقدم له، وقد عرف هذا الإنسان باسم «الهوموراكتوس» الذي سلك في طريقه إلى بلاد الشام خطين اثنين يشكلان ممرات طبيعية بين إفريقيا وآسيا، الأول ساحلي أي على امتداد سواحل البحر المتوسط، والخط الثاني داخلي على طول الانهدام السوري- الإفريقي الممتد من جنوب وشرق إفريقيا في الجنوب مروراً بالبحر الأحمر فوادي عربة، فوادي الليطاني وحتى نهر العاصي في سورية شمالاً.. ومعلوماتنا عن إنسان «الهوموراكتوس» نادرة نسبياً، وهي مستمدة بشكل خاص من الأدوات والأسلحة الحجرية التي صنعها وبقيت تشكل الدليل المادي المباشر عليه، وقد استخدمت هذه الأدوات في وظائف مختلفة تمركزت كلها حول الصيد والالتقاط، مصدر عيش ذلك الإنسان الرئيس، وكان أهم تلك الأدوات «الفأس اليدوية» وقد صنعت مجتمعات ذلك الزمن أنواعاً مختلفة منها كالقواطع والأدوات القاطعة والمتاحف، وقد تطورت هذه الأدوات مع الزمن سواء من حيث تقنيات تصنيفها أو أنماطها، ونجد نماذج منها في قسم ما قبل التاريخ من المتحف الوطني بدمشق.
طلائع هذا الإنسان عاش في سورية في الفترة الواقعة بين (1000,000) سنة و(700,000) سنة وهذه الفترة تعاصر ما يسمى بالعصر الأشولي القديم في بقية المناطق من العالم، ومن سورية تحركت تلك المجتمعات شرقاً إلى وسط وشرق آسيا، وشمالاً إلى أوربا، وقد أتت المواقع الممثلة لهذه المرحلة الباكرة من عصور ما قبل التاريخ من المناطق الساحلية لسورية ومن المناطق الداخلية أيضاً، فقد عثر في «ست مرخو» في السرير الأعلى لنهر الكبير الشمالي في محافظة اللاذقية على أقدم آثار لإنسان ما قبل التاريخ معروفة حتى الآن من خارج القارة الإفريقية، وقد عثر في هذا الموقع على مجموعة من الأدوات الحجرية تمثل، فؤوساً وقواطع ومعاول وسواطير وشظايا ونوى، وأنماط هذه الأدوات البدائية كانت مصنّعة بالمطرقة الحجرية الثقيلة والكمخة الكثيفة التي تحملها.
في نفس الوقت الذي سكن فيه الإنسان حوض النهر الكبير الشمالي كانت جماعات بشرية أخرى تجوب حوض نهر العاصي، وقد وجدت آثارها في منطقة خطاب إلى الغرب من مدينة حماة، وهي عبارة عن عدد قليل من الأدوات الحجرية الصغيرة كالشظايا والنوى والقواطع، ولكن لا وجود بينها للفؤوس اليدوية، مثل التي وجدت في موقع «ست مرخو» مما يدل على أن الجماعات البشرية التي سكنت حوض العاصي في ذلك الوقت كانت لها تقاليد حضارية مختلفة عن تقاليد الجماعات البشرية التي سكنت في حوض النهر الكبير الشمالي، إذ صنعت كل منطقة أدواتها وأسلحتها المختلفة، مما جعل علماء الآثار يتحدثون عن تقليدَين حضاريَّين متميزين، الأول اشتهر بصناعة الفؤوس اليدوية، بينما استخدم ممثلو التقليد الثاني الأدوات الصغيرة.
أما العصر الثاني الذي يؤرخ بين (700,000) إلى(250,000) سنة، فهو يرادف العصر الأشولي الأوسط في أوربا والعالم، وفي هذا العصر ازداد عدد سكان سورية، وتوضحت هويتهم الحضارية، فظهرت حضارات محلية أصلية تطورت بأشكال مختلفة في مختلف المناطق الساحلية والداخلية، وبقيت الأدوات الحجرية المؤشر الرئيس على مجتمعات هذه المرحلة، ولكن بدأت تظهر معطيات أثرية أخرى تصاعدت أهميتها باستمرار، فحصلت تجديدات مهمة سواء في تقنيات تصنيع الأدوات الحجرية أو في نمط الحياة، وتعمقت ابتكارات العصر السابق وأصبحت الأدوات أكثر دقة وتنوعاً، واستمرّ الاعتماد على الفأس اليدوية بعد أن طورّت وأخذت أشكالاً مختلفة، بعضها متطاول مدبب أو بيضوي أو على شكل مثلث أو قلب، وأصبحت الأدوات الصغيرة أكثر تنوعاً وعدداً، وقلّ عدد الأدوات الكبيرة القاطعة وبدأت بالظهور طرق جديدة في تصنيع الحجر، وأصبحنا في سورية نستطيع التحدث عن «المراكز الحضارية» التي عاشت فيها جماعات صنعت كل منها أدواتها الخاصة التي تطورت على امتداد زمن طويل، فبينما استخدم سكان الساحل السوري الفأس العريضة ذات الشكل البيضوي، فضّل سكان المناطق الداخلية الفأس اليدوية الطويلة والمدببة، وكان موقع «اللطامنة» الذي يبعد نحو/40/ كم غرب مدينة حماة، أهم موقع أثري معروف من هذا العصر-حتى الآن- حيث عثر ضمن الطبقات الأثرية فيه على بقايا معسكر بقي سلفاً رغم مرور أكثر من نصف مليون سنة عليه، وكشفت التنقيبات عن وجود أرضية سكن أصلية لم يلحق بها تخريب كبير، إذ بقي كل شيء كما تركه السكان الأوائل، وقد احتوى المعسكر على عدة آلاف من الأدوات الحجرية بينها فؤوس يدوية متطاولة وكبيرة، دقيقة الصنع، ندر أن وجد ما يشابهها من هذا العصر في العالم، وقد رافقت تلك الفؤوس معاول وقواطع وسواطير وأدوات متنوعة بعضها ثقيل وأخرى خفيفة، ووجدت في «اللطامنة» دلائل باكرة للبناء والنار، هي الأولى من نوعها في هذا المجال، وكشفت عن مجموعات منتظمة من الأحجار الكبيرة التي نقلت إلى الموقع من مقلع مجاور، وكانت هذه الأحجار تسند جدران أكواخ من الجلد والأغصان والأعشاب، تشبه خيام البدو التي مازالت تستخدم -حتى الآن- وهذا أقدم دليل في سورية ومن خارج إفريقيا، على قيام مجتمعات إنسان «الهومواركتوس» ببناء الأكواخ في العراء، وقد اعتمدت هذه المجتمعات التي كان يتراوح عددها في كل معسكر بين (10و15) شخصاً على اصطياد الحيوانات الكبيرة والمتوسطة (فيل- وحيد قرن- جمل- حصان- غزال...) كما التقطت الثمار البرية كاللوز والزعرور، مما كان ينمو في حوض العاصي الغني الذي كان يشبه الغابة.
المرحلة الثالثة، وتؤرخ بين (250,000 إلى 100,000) سنة خلت، وتوازي ما يعرف عالمياً بالعصر الأشولي الأعلى، وفي هذه المرحلة تابعت مجتمعات ما قبل التاريخ في سورية تطورها في مناطق جديدة تقع إلى الشرق من الانهدام السوري الإفريقي، فوصلوا إلى البادية السورية ونهر الفرات، وقد أصبح الإنسان في هذه المرحلة ينتمي إلى نوع متطور من «الهومواركتوس» في كل المناطق الجغرافية لبلاد الشام، ولم ينقطع العيش عن تلك المناطق حتى نهاية العصور الحجرية، وقد أضاف الإنسان في سورية في هذه المرحلة ابتكارات جديدة ومتنوعة فتابع التقدم في تصنيع الأدوات الحجرية، وحسّن تقنياتها وظهرت أنواع جديدة منها، ولكن الفؤوس اليدوية، بقيت في هذا العصر تلعب الدور الرئيس وتحتل المكانة الأولى بين مجمل الأدوات الأخرى، وكانت تلك الفؤوس أكثر دقة وتنوعاً، فقد استخدمت في صنعها مطرقة ناعمة من الخشب أو العظم، مما ساعد على استخراج أشكال منتظمة ودقيقة وجميلة، وساد في هذا العصر نوع واحد من الفؤوس على شكل اللوزة، أو القلب يمثّل تقليداً حضارياً واحداً غطى كل بلاد الشام، مما يدل على الوحدة الحضارية المتجانسة في صناعة الأدوات والمعرفة.. ويعد موقع «القرماشي» في حوض نهر العاصي في سورية أهم موقع من هذا العصر، حيث كُشف فيه عن معسكر نادر من نوعه وغير مخرب، سُكن من قبل جماعة بشرية صغيرة، تنتمي إلى نوع متطور من «الهومواركتوس» أقامت في الموقع لزمن قصير، تاركة بقاياها التي غطتها طبقة من التربة الحمراء، فحفظتها سليمة رغم مرور نحو /200,000/ سنة على هجر الموقع، وكانت الأدوات الصوانية سليمة وهي على شكل اللوزة أو القلب، وهناك أدوات قاطعة ومقاحف ومثاقب وأدوات مسننة تدل عل القيام بعمليات تصنيع الأدوات الحجرية في الموقع، وكما الحال في موقع «اللطامنة» فقد بني سكان «القرماشي» القدماء الأكواخ البسيطة التي دّلت عليها الأحجار المنتظمة التي بقيت في أرضية الموقع، وآثار المواقد تدل على استخدام النار بشكل جيد.
في الفترة الواقعة بين (150,000 إلى 80,000) سنة، حدثت في سورية تغيرات حضارية وربما عرقية، وعاصفة في تصنيع الأدوات وهناك ما يدل على قدوم جماعات بشرية جديدة واختفاء القديمة، وهناك ما يدل على تراجع الدور الهام المهيمن للفؤوس اليدوية، وبالتالي تقهقر الأقوام التي استخدمت تلك الفؤوس والتي سميت اصطلاحاً بالأشولية، وقد تقدمت الأدوات الخفيفة وحققت التقنية المسماة بـ «اللغلوازية» تقدماً ملحوظاً، ونلاحظ أن هذه التقنية قد اعتمدت على اختيار نوى دائرية ورقيقة، حُضّرت من كل جهاتها من أجل استخراج قطع ذات أشكال محددة سلفاً، ولكن التقنية «اللغلوازية» لم تبلغ أوجها إلا في العصر اللاحق وعلى يد إنسان «النياندرتال» وقد ازداد في هذا العصر استخدام الأدوات العظمية والخشبية।
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الباحثون العدد 46 نيسان 2011

ليست هناك تعليقات: