2011-05-22

الأرض والسمـاء


د. نبيل طعمة

ثمة في الفكر الإنساني القديم والقديم جداً، محاولات قام بها الإنسان لتحديد موقعه، أين هو؟ حيث تساءل: من خلال مسيره على أي شيء يسير؟.. كيف تكوَّن ومن أين تكوَّن وما المتكون تحته؟ وما حاجته إلى هذا التكوين؟ وما حاجة التكوين الذي تحته وفوقه وحوله، إليه؟ وكيف عرف أنها أرض تحته يسير عليها ، وسماءٌ فوقه يحتمي بها؟ وهل شاهد هذا كلّه وهو يهبط من جنان الخلد، فرأى ولأول مرة كرة لامعة بيضاء ممزوجة بزرقة، تدور في فَلَكِها المدهش فضاءً لا متناهياً، وأنهى مرة واحدة كل التساؤلات عن الأرض والقمر والشمس والسماء ودورانها إلى ما لا نهاية؟، أم أن هذه الحركات والأجرام لم تكن واضحة لذلك الإنسان إلى أن كبُر العقل، وكبُر التفكر ونشأ الفكر فأخذ البحث والتفكير في الموجود والمحيط، وبدأت الرؤيا تتضح رويداً رويداً بدءاً مما مضى من الأيام العميقة البعيدة، وإلى أن هبط الإنسان على سطح القمر عام ((1969 آرمسترونغ)) حين شاهد كوكبه، أرضه من بعيد، وأمعن النظر إليه وثبّت كل ما ورد من دراسات موغلة في الِقدَمْ، وعزز الاستكشاف الحقيقي عبر ثورة علمية إنسانية إعجازية خارقة.
لقد حاول الإنسان تخيُّل أرضه ومحيطه، وكان أول تَخَّيل وأنجزه على شكل خريطة بدائية. وجدت على لوح فخاري صُنِع في بلاد مابين النهرين حوالي /2500/ ق.م، حيث وُجدت عليه رسوم قرية صغيرة تطل من حافة جبل، على واد يجري نهر في عمقه، وكانت هذه الرسوم محدودة المعاني ومؤطرة بالحياة اليومية للأفراد.
ولئن دلَّ هذا على شيء، فإنما يِدلُّ على أن الإنسان حاول ويحاول، وعليه أن يحاول دائماً فهْم محيطه، فالبحث والنظر إلى ما نحن عليه لا يعني فقط أن نمد النظر إليه. فإذا كان هذا وحده فقط كان الأمر سواسية بين جميع الخلائق، فالكل يمدّ النظر. ولكن إن قلنا إننا نمتلك حاسة البصر وقوة النظر وهما اللذان يشكلان الفكر، الذي يدعو إلى التفكر والذي يبدأ من الأصغر ليصل إلى الأكبر، فلا نستطيع بلوغ الأقصى إن لم نتجاوز الأدنى.
فأقرب شيء إلينا وهو أرضنا... كوكبنا بعد امتلاكنا لنفسنا التي تعيش فينا وتحيينا والتي تشكّل بقربها منا وملاصقتنا لها مقرَّنا ومجال بحثنا وبناءنا الفكري والعقلي والجسدي، ومن ثم الهواء الذي يحيط بنا وبعده السماء التي تظلنا، هكذا نبدأ التفكر معاً، ونسأل أنفسنا: إلى ماذا نتطلع وبماذا نتفكر؟ وماذا نريد أن ننجب من التفكر؟ وإلى أين نريد أن نصل؟
إذن نستطيع القول الآن: إن الكوكب الذي نحيا عليه / كَكُرَةٍ / كرة أرضية. وهو الكلام المتداول في التعريف البديهي الأولي، ولكّن اسمها جنس مؤنث في اللغة، وجمعها أرضات وقد تكون "أرضون"، وأرض أريضة أي أرض زكية، وهي مركّبة من الجواهر المفردة، فلها أجزاء ومفاصل بالفعل موجودة بوجوداتٍ مغايرة لوجود الكل، كما هو شأن المركبّات الخارجية، وأرضنا ليست أرضاً صرفة، فلا تُرى بحكم كثافتها وامتزاجها بمكونات الحياة مع الماء والهواء، وأجزاء موجودة حقيقة مغطاة بالتراب، وترابها جنس لا يُثنَّى ولا يُجْمَع وسمة لونه ترابي.
إن العودة دائماً لقصة الأرض ووجود الإنسان والموجودات عليها، ومحيطها المتناغم مع بعضه، بحيث شكَّل صورة جميلة رائعة التكوين، والخلق المستمر عليها ومنها وإليها، وأنها الأم الولود ابتداءً، والحنون الحاضنة انتهاءً، والعلاقة مع الزمن والإشارة للفعل والتفاعل، والحركة المترافقة المتوافقة مع كل الموجودات ومن أعطـى الأمـر، هـي حقيقـة البحـث في فلسفـة التكوين الفكري، والذي كثيراً ما نحتاج إليه من أجل معرفة وجودنا، وفهم حركة التطور والتقدم إلى الأمام، لنستمر تطوراً وتقدماً وحمايةً لإنساننا وزمننا وأرضنا.
فعودتنا لفهم العلاقة التاريخية وقراءة تاريخنا، ليس نشرة إخبارية أو قصة نرويها لنستذكر ماضياً أو أن نُمضي وقتاً، وليس لنبتهج أو نحزن، بقدر ما هو بحث فلسفي في جوهر الماضي، وعدم فصل جوهر الماضي عن جوهر الحاضر كي يستمر الجوهر إلى المستقبل، مُستَكشَفاً من قِبَل القادمين الجدد إلى هذه الأرض.
فلنحدد وبأكثر ما يؤكد المسؤولية المطلوبة منّا للحفاظ على كوكبنا، ولنكن من الدقة والمسؤولية التاريخية المعززة بالعلمية التفكرية الإبداعية وكي يستمر الإبداع، بالانتباه إلى كوكبنا بمراقبة الماضي وإعادة دراسة التطور الهائل الذي حصل عليه، وما حدث له وشابَهُ من سلبيات وإيجابيات، كي لا يضيع منّا ولا يسقط في هاوية المجهول. فإن قرأناه تفادينا سلبياته وزدنا في إيجابياته، ليأخذ بيدنا زيادةً في التفكر الذي يؤدي بدوره إلى التطور.
فلننتبه: إن أرضنا هي الأنثى الحقيقية الوحيدة بكونها تحمل الماء والتراب وأسباب عيشنا وأدوات ومواد تطورنا، فهي /أمنا أمّ الكل، الكل.. الأحياء جميعاً/ ويجب أن لا نتطاول عليها بكوننا لا نعرف غيرها حتى الآن، وإننا لا نعرف أرضاً حيَّة غيرها، فهي الأرض الحيّة، الكوكب الحي حتى الآن وضمن المجرات الكونية، مجرتنا ومجموعتنا الشمسية والمجرات الأخرى.
فلماذا هي وحدها الحيَّة الوحيدة حتى الآن؟ لأنها تحمل الماء، والماء حياة، نحيا ونُحيي به ومنه، ولكن هل يكفي الماء فقط؟ هناك المحيط الهوائي والغلاف الجوي، علاقة حياة متكاملة لها عناصرها المترابطة، كالذرّة: نَواتها وبروتوناتها وإلكتروناتها فبدونها لا تكون ذرّة وكذلك الأرض بدون عناصرها لا تكون أرضاً. ولننتبه إلى أن كلمة أرض، تشير إلى جميع الأراضي الموجودة في كوننا بحال الجمع المتعدد، لتشمل الكواكب الأخرى غير الحية، والتي تتسارع رحلات الاستكشاف والأبحاث العلمية للوصول إليها واكتشافها، والتعرف إلى عوالمها، وهل هي حيّة أم لا؟
فإذا سلّمنا بالقَصَص العلمي الذي أشار إلى حادثة انفصال الأرض عن الشمس / من خلال ذلك الانفجار العظيم الهائل/ ثم برودتها وتصلبها وتكوّن بحارها وجبالها وسهولها وغلافها الجوي، والنظر إلى سمائها وقمرها والكواكب المحيطة بها، والنظر والتدقيق في القَصَص الديني، وبأن السماء والأرض كانتا رتقاً ففُتِقَتا وفطرتا من خلال /حبة الفطر/ وملايين السنين التي احتاجاها تطوراً، والأيام الستة في إنجاز عملية الخلق والاستواء على العرش في اليوم السابع في المعرفة الإيمانية والانتقال من حال إلى حال معرفياً. وكيفية الظهور الأول للحياة على الأرض وأنه أتى من سطح الماء والمستنقعات وشواطئ المسطحات المائية التي كونت الطين الذي نتج عنه آلية انسحاب الماء تبخراً وانحساراً، وتشكل العفن المنتن الذي أدى إلى نشأة البكتيريا وبعض الكائنات وحيدة الخلية، التي لم تكن معروفة أهي نبات أم حيوان، وأن الخلايا كانت أول الخلق.
إذن الإنسان هو نبتة الأرض كما النبتات التي نشأت من الطين اللازب والصلصال كالفخار والماء والتراب، وتكوَّن كما الكائنات المتناهية الدقة التي عاشت بعيدة عن الضوضاء وجلبتها، ورزقها متوفر رغداً من الهواء وماء البحر وأملاحه.
وإننا مدعوون لدراستها، فهي أُمّنا ونحن أبناؤها وعلينا واجب حمايتها ورعايتها، وما أعظم المعنى في قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) فهي الفراش والمهاد، وهي الذلول لنمشي في مناكبها.
وفيها الجبال الرواسي أوتاداً كي لا تميد، وهي الواسعة لنعجز عن بلوغ كل أطرافها، مهما طالت أعمارنا وكثر تطوافنا وتجوالنا، لنتفكر في عجائبها فهي معاش للأحياء على ظاهرها، ومستقر لرفات الراحلين عنها، وهي الحية الغنية التي تقدّم كل مطالب الحياة بدون مقابل، وتنبت كل أنواع النبات، وكل أجناس الحيوان وتعطي كل ما تملك من حِلّي وجواهر وممتلكات ذهبية وفضية ونحاسية وبرونزية.. إلخ، وكل أنواع الطاقة وموادها الوفيرة من بلوتونيوم ويورانيوم ونفط وكبريت وقار. فلماذا الدراسة والتفكر في السماء والأرض وما بينهما، واختلاف الليل والنهار والفصول الأربعة واختلاف الشروق والغروب، والضوء والعتم والسواد والبياض والشفق.
أو ليس هذا كلّه قيماً توّلدُ لدى المتفكرين الفكر، وتعطي للعقول قيماً؟ وما غاية التفكر فيها وبمحيطها؟ أليس من أجل التطور الإنساني؟ فمَن مَلَكَ الفكرة مَلَكَ العِبرة، والعِبرة تأتي من الممارسة العملية لتكون الخبرة، والخبرة من التعمق في الشيء والبحث فيه، سئل السيد المسيح عليه السلام (يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك) فقال نعم: من كان منطقه ذِكراً، وصمته فكراً، ونظره عِبرة، فهو مثلي، ومن لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن صمته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو.
وقال وهب بن منبه: (ما طالت فكرة امرئٍ قط إلا عَلِمَ، وما علم امرؤ قط إلا عمل). وقال الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإنكم لن تقدروا قدره) ، فالتفكر بالموجودات والتي هي الأرض وإنباتها والسماء ونجومها وكواكبها، والهواء وما يحمله يوصلنا إلى الموجد، كما التفكرِ في المصنوعات يوصل إلى الصانع.
إذن هي أرضنا، محمية بغلاف واقٍ سميك الطبقات: أوزونوسفير وستراسفير وتروبوسفير وأيونوسفير شفاف يرينا ولا يرى، نخترقه بالسلطان (العلم والأداة) ولا يخترقنا، يحمينا من الحرارة الحارقة والتجمد اللامتناهي، لنكون ضمن الشروط الطبيعية للحياة، وجاذبية لا تتوفر حتى الآن إلا على أرضنا فإذا تجاوزنا الغلاف فقدنا جاذبيتنا.
ودوران الأرض وتمايلها لتُشكل المشارق والمغارب، وتبختُرها في مسيرها كي يصل النور إلى كل نقطة فيها ولتدفئها الشمس بحنان في قطبيها، وبشدة على محورها الرئيس.
هي ذي إذن أرضنا، وفي المعنى الصحيح أرضنا الحية، فلا نستطيع أن نسمي أي أرض لا توجد عليها حياة بأنها أرض حية، كما ورد في آي الذكر الحكيم في الكتاب المكنون (يُخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميتَ من الحي) نتفكر ونطيل التأمل لتتولد الخبرة من العبرة، فنجد أننا نعيش ضمن البيضة، فإذا أخذنا مقطعاً عرضياً لبيضة، فماذا نجد؟ نجد صفاراً وهو الكرة الأرضية، وبياضاً يمثّل الهواء المحيط والحامل للأوكسجين وقشرة رقيقة هي الغلاف الجوي وقشرة سميكة تحمي كل شيء ضمنها تحمي الأوكسجين من الاختلاط والأشعة الكونية من النفاذ، والإعجاز الأعظم هو في ثبات الأرض أي دورانها في موقعها، فالمسافات بين الأرض والشمس والقمر أيضاً ثابتة، والدوران محسوب زمنياً، فمثلاً تقطع الشمس في دورانها 18 كم في الثانية، والقمر 15 كم في الثانية، والأرض 12كم في الثانية (الصفار ضمن هذه الأغلفة)، وذلك المحيط ويجسّد كيف أن الأرض ممسوكة ضمن أغلفتها، وطالما أننا نهيئ ظروفاً طبيعية وشروطاً نظامية نجد أن البيضة حية، كذلك علينا واجب المحافظة على كوكبنا بتوفير الشروط النظامية لحياتها فهي حية مثلنا ولكننا نحن نحميها بأن يسلّم بعضنا مهمة حمايتها.
إنها مسؤوليتنا، فهي التي أنجبتنا وعلينا المحافظة عليها، إن جنسنا الإنساني مسؤول عنها بكونها أيضاً جنسَ أنثى، وهي بالرغم من قوتها وعطائها فإنها اليوم أضعف وأقل عافية لقد دلت الدراسات السكانية على أن عدد سكان الأرض في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام كان في حدود مليوني نسمة، وبلغ لدى قدوم السيد المسيح عليه السلام ستمئة مليون نسمة، وفي عام 1900 كان ملياري نسمة، ويبلغ اليوم 6.5 مليار نسمة، فهذه الأرض واحدة ونحن مدعوون إلى خلق ثقافة يؤدي فهمها إلى خلق نمط تفكري علمي ناضج من خلال تأمين ظروف دراستها بشكل أعمق وأوضح، والتعمق فيها والتعلق بها، فهي التي تمنحنا تطور العقل من خلال عقلها الكبير ونتاجها الأكبر والأوفر من عقل الإنسان مجتمعاً وأوفر منه نتاجاً، فمن خلال عقل الأرض وعقل السماء، ينتقل العقل للإنسان من خلال التفكر فيهما، فإذا تأملنا في الأرض والسماء وما بينهما والموجودات في محيطنا وعلى أرضنا، تولدت لدينا الفكرة من خلال التأمل البصري في الشيء الذي يسكن العقل ليعيد إنتاجه فعلاً وإنجازاً، أليس التأمل في الطير أنجز الطائرة؟ والتأمل في الحوت أنجز الغواصة، والتأمل في البعوضة أنجز الهيلوكبتر؟ والتأمل في النور أنجز الإنارة؟ وهكذا فبكون أن الإنسان نبتةُ الأرض وكل شيء عليها هو من نبتها، إذن فإن عقلها أكبر وإلى ذلك يشير القول الكريم أيضاً في الكتاب المكنون قال تعالى: (اتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).
إن المدنية الحضارية المنجبة للتطور لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى مُفرد واحد، وهو أنها تأتي عادة بعد مرحلة التزاوج الهادئ بين الإنسان والأرض، ومن ثم التفكر فيها وفي محيطها وسمائها، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً في عملية أو عمليات إبداعية، تؤدي إلى التكوين الذي يؤدي بدوره إلى التجانس، ومنه تتولد الأمم وتتحضر فكرياً، لتسجل اسمها على كوكبها الحي، فتزيد في حياته وجماله والحفاظ عليه.
فإذا عرفنا أن المعنى الحقيقي للجغرافيا هو (علم وصف الأرض) وعرفنا كيف نصفها عرفنا كيف نتطور، وهذا يوضح لماذا يُلزَم كل العلماء والباحثين- حين يريدون الانطلاق والتقدم في علومهم- بأن يقوموا أولاً بدراسة كل شيء عن أرضهم (المُناخ، التربة، الماء، النبات، الحيوان، الموارد الطبيعية) وذلك لتحديد نوع الاقتصاد وقوته، وتوزّع السكان وتنوعهم، إلى تحديد السياج والحدود والسياسة وتخطيط المدن ونوعية وشكل الاستعداد للانتقال إلى المستقبل ومن ثم الذهاب إليه.
فدراسة الأرض، هذا الكوكب الكروي دراسةً للماضي والحاضر والمستقبل، وإن علاقتها مع الزمن الكبير الذي بدأ تسجيله من خلال الزمن الماضي والحاضر، والعيش على أمل الوصول في كل يوم إلى زمن المستقبل، وتخيّل زمن المستقبل كيف سيكون شكله، لونه، طعمه، حضوره، هو منجب للفكر الخيالي، الذي يصبح في الغد حاضراً وبعد الغد ماضياً، هذه العلاقة الإيجابية المستمرة منذ ملايين السنين، إلى أين ستصل، وهل ستبقى أرضنا لنا، وهل ستتسع لنا أم أن التقصي والكشف عن كواكب جديدة ربما سيقسمنا نصفين، وتصبح هناك كرتان أرضيتان؟ وهل هناك حياة خفية على كوكب آخر خفيٍ مجهولٍ، يحاول استكشافنا وغزونا، وغايته أن يحتل كوكبنا، أرضنا، بعد أن استنفد كل ما لديه في كوكبه: أرضه، ماءه وأوكسجينه ونباته، وما في باطن كوكبه كما نفعل نحن الآن، فالزيادة السكانية الهائلة واستنزاف الموارد وبشكل عنيف ومخيف، غايته إرضاء الذات البشرية، والأنا المسيطرة، والحروب والاستغلال البشع للإنسان من قبل أخيه الإنسان، والنهب المتواصل للثروات في باطنها، كالأم تعطي ابنها كلما يحتاج، ولكنّ طمعه أوصله لأن يسلب من جواهرها وحليّها، وسيأتي يوم تنفد الثروات وينفد معها كلُّ شيء.
إنها أرضنا.. كوكبنا يدور ليلاً ونهاراً، يمنحنا الراحة والسكينة وقوة الانطلاق للعمل، ويعطي للزمن قيمة، فتصبح لنا قيمة نترابط معه ويترابط معنا من خلال جاذبية ثلاثية نوعية الأرض، والإنسان، والزمن ننجذب لبعضنا لنشكل معاً ساعة ميناء وعقارب وأرقاماً مقسمة، تحدد لنا من خلال مسيرنا عمرنا ونتاجنا وتاريخنـا، إنهـا تخــاف علينا كي لا نضيع في الفراغ السلبي غير الجميل الذي لا جاذبية له ولا طعم ولا لون ولا وزن، فتجعل لنا وزناً يشدّنا إليها.
هي أمنا تتفقدنا على مدار الزمن فلا ترغب في ابتعادنا عنها رغم محاولاتنا استكشاف غيرها، فكم يجب أن نكون حذرين عليها وحذرين من الابتعاد عنها.
لنخفف قوة أقدامنا ولنمشِ الهوينا، فما أظن ويجب أن لا تظنوا معي بأن أديم الأرض والذي صيغ منه آدم وتستمر الصياغة إلاّ من هذه الأجساد. فهذا التراب الذي يغطي ظاهر الأرض من أين أتى؟، ألم يأتِ من رفات الذين قضوا ومضوا؟، ألم يحتضن ثرى هذه الأرض الذي نسير عليه رفات ألوف المبدعين والعباقرة البارعين والفلاسفة والموسيقيين المهرة؟، ألم يضم هذا الثرى عقولهم وأفكارهم التي أنجبت أعظم الحضارات وخوارق العلوم؟!
إنني أختم وأقول عن الأرض: لنتفكر من أين تنمو، لنلاحظ أين نزرع النبات ونجني الثمار ألا تتغذى هذه النباتات والثمار من عقول وأفكار من سبقونا ونحن اليوم نتغذى من أفكارهم، ألا نزرع في ذلك التراب ألا نبني على ذلك التراب، ألا نتحرك عليه؟، إننا نستنشق روائحهم ونحسّ وننمو من عقولهم، فهم تجمعوا، وفي كل زمن يتجمعون ليزيدوا في عقل الأرض الكبير والذي يمنحنا عقلاً، لنتفكر فالعقول التي تفكر. تفكر بنفس طريقة العقول المفكرة فلنتفكر.
إن المطلق يعلمنا أنه عند بزوغ فجر يوم جديد أي بظهور النظام الشمسي للوجود اليومي، وعلى كامل تقسيمات زمن الظهور على كوكبنا يحمل معه قوة العقل النسبي، وعند حلول الليل أي بحلول الراحة الكونية يتوارى الكون والعقل الكوني النسبي، ليبدأ التجلي العقلي في المطلق السرمدي كلّي الحضور والقدرة، ذلك الخفي الحاضر منه تصدر الأشياء وإليه تعود بعد انتهاء تطورها الكوني. إنه اتحاد العقل في مركبات الوجود من أجل التطور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : الباحثون العدد 47 تاريخ أيار 2011

ليست هناك تعليقات: