دكتور محمد العوادي
في السنوات الأخيرة، باتت السرقات العلمية في الجامعات ومراكز إعداد الأبحاث ظاهرة تؤرق كل غيور على العلم ومكانته. ولم تعد هذه الظاهرة مجرد حالات فردية نادرة، بل أصبحت ملمحًا عامًا في بعض المؤسسات، تُمارس فيها ممارسات تخالف كل قواعد الأمانة العلمية، وتضرب بجذور الثقة في البحث الأكاديمي والتعليم العالي.
من المؤسف أن نجد طلابًا يحصلون على درجتَي الماجستير والدكتوراه في فترات زمنية قياسية، لا تتناسب أبدًا مع طبيعة التخصص، خاصة حين يكون المجال هو علم المصريات، الذي يُعرف بصعوبته وتراكم المعرفة اللازمة لفهم نصوصه ونقوشه ولغاته المتعددة، فضلًا عن فهم السياق التاريخي والديني والفني للمادة الأثرية. ورغم ذلك، نجد مَن ينال هذه الدرجات من دون جهد حقيقي، بل أحيانًا دون أدنى إلمام بالأساسيات.
ويزيد الأمر سوءًا أن بعض هذه الرسائل تُعدّ بشكل كامل مقابل مبالغ مالية تُدفع لمراكز أبحاث خاصة، أو لأفراد امتهنوا هذا العمل، يكتبون للطالب من الغلاف إلى الغلاف، في غفلة من الضمير، أو ربما بتواطؤ ضمني من بعض المشرفين غير الأمناء. وفي أحيانٍ أخرى، تتم السرقات من رسائل علمية أجنبية، تُترجم وتُقتطع أجزاء منها وتُقدَّم على أنها من إنتاج الطالب، بلا إحالة أو توثيق، وكأن لا أحد سيكتشف أو يتابع.
وقد حدث أن أشرفت بنفسي على طالب، بدا في البداية مجتهدًا، ثم تبيّن لي لاحقًا أنه نقل فصولًا كاملة من رسائل أجنبية دون إذن أو إشارة، ولولا تتبعي لما تقدم به، لكانت الجريمة قد مرت بسلام، ولكان قد حصل على الدكتوراه ظلمًا، بل وربما نال ترقية بعد ذلك، كما رأيت في حالات مشابهة.
والأدهى من ذلك أن بعض الزملاء ممن وصلوا إلى درجات علمية ومناصب أكاديمية رفيعة، لا يمتلكون المقومات العلمية التي تؤهلهم لذلك، لا في اللغة، ولا في التخصص، ولا في فهم أصول البحث العلمي. وهذا لا يحدث مصادفة، بل هو نتاج منظومة تسمح بالتجاوز، وتغض الطرف عن التدقيق، ولا تضع معايير حقيقية صارمة لتقييم الإنتاج العلمي.
أما على مستوى الباحثين والمعيدين، فالحال لا يختلف كثيرًا، إذ يفتقر عدد كبير منهم إلى أدوات البحث، وإلى الجدية، وإلى الرغبة الحقيقية في التعلم. بعضهم لا يقرأ ولا يكتب، بل يعتمد على آخرين يزوّدونه بما يحتاج، أو يستنسخ من هنا وهناك بلا ضمير، ثم يرفع صوته على من يعلّمه وينتقد من يحاول تقويمه.
إن السكوت عن هذه الظواهر هو خيانة للعلم، وتواطؤ مع الزيف. وإن الصمت أمام هذا الانحدار هو طعنٌ في صدور العلماء الشرفاء الذين أفنوا أعمارهم في سبيل تحصيل المعرفة ونقلها بأمانة. ولا بد من وقفة حازمة، تُجرَّم فيها مراكز الأبحاث الوهمية، وتُراجع فيها كل رسالة تُقدَّم، وتُستخدم فيها أدوات الكشف عن الانتحال والسرقات العلمية، ويُحاسب المشرف قبل الطالب، لأن المشرف الأمين هو خط الدفاع الأول عن نزاهة العملية الأكاديمية.
وإنّ بقاء الحال على ما هو عليه ليس فقط خطرًا على جودة التعليم، بل هو خطرٌ على هوية الأمة، وعلى مصداقية علم يُفترض أنه من أعمدة الحضارة، مثل علم المصريات، الذي لم يكن يومًا مجالًا سهلًا، ولا يصل فيه إلى القمة إلا مَن امتلك عقلًا نابهًا، وصبرًا طويلًا، وضميرًا يقظًا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق