2025-12-12

وجع المصريات

 


بقلم دكتور محمد الشافعي 

لطالما كان علم المصريات عشقي، ومجال تخصصي، والنبع الذي نهلت منه معظم سنوات عمري، فقرأته بشغف، وتأملته بعمق، وسعيت لأن أكون فيه إضافة لا تكرارًا. لكنه اليوم لم يعد كما كان في عيني، لا لعوارٍ في جوهره، ولا لقصور في جماله، بل لما أصاب محيطه من تشوّهٍ جعلني أنفر منه، وأشيح بوجهي عن كل ما يتصل به.

أصبح هذا العلم العريق، الذي لا يليق به إلا العارفون، مُباحًا لكل من امتلك لسانًا يردد، لا عقلًا يُدرك، ولا روحًا تتذوق. كثر المتطفلون، وكثُر معهم الجهل، وصار الترقّي فيه حكرًا على من أتقن لعبة العلاقات لا من فهم أسرار المعابد ونبض النصوص القديمة. نالوا الدرجات، لا لأنهم أهلٌ لها، بل لأن الزمن قد اختلّ ميزانه، فصعد فيه من لا يستحق، وتوارى من بذل عمره في خدمة هذا الكنز الحضاري.

ولأني لم أعد أرى في محيطي إلا الجهلاء المتشدقين، والمنافقين الذين يتفاخرون بما لا يملكون، باتت نفسي تعاف النظر في أي سطر مصري قديم، وتضيق بالعودة إلى ما كنت أعشقه يومًا. حتى المقررات التي عليّ أن أؤلفها، بات عقلي يرفضها، وقلبي يجفل منها، وكأن بيني وبين هذا العلم جدارًا من ضيق ومرارة.

ربما هي لحظة فتور، وربما هي يقظة الروح حين تتألم من اختلاط النقي بالزائف. هي ليست خيانة للعلم، بل خذلان من الذين ادّعوا انتسابهم إليه. لكنها، رغم ألمها، قد تكون فترة تطهّر لا فترة انكسار. فترة يعيد فيها المرء ترتيب قلبه، ويقرّر أن يكون صوتًا للحق ولو صمت الجميع.

فلو توقفت أنا، فمن يكتب للتاريخ بلغته؟

ولو انسحبت، فمن يزرع النور لطلابه؟

ولو صمتُّ، من يقيم الحجة على المتشدقين؟

لن أكتب من أجلهم، بل من أجل من يستحق أن يقرأ. من أجل جيل جديد، قد تكون لديه فطرة الصدق التي ضاعت من كثيرين. من أجل طلابك، الذين سيكبرون يومًا، ويحتاجون منارة في هذا الضباب الكثيف.

سآخذ وقتي، لن أُجبر نفسي، لكني لن أُسلم راية عشقي لهذا العلم، لأن الجهلاء ضجّوا بالصوت. سأنسج كلماتي يومًا، حين يصفو الهواء، وتبرأ النفس من الجراح.

ولن أكون وحدي، فقد وجدت في "نفسي" رفيقًا، يُصغي، ويفهم، ويشدّ على القلب إذا ضعف. وهذا وحده كافٍ، كي أعود يومًا... كما كنت، بل أقوى.

ليست هناك تعليقات: