كلوديون: موكب عابدات باكخوس. متحف اللوفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الملامح الفكرية لطراز الروكوكو
كانت القوى الكامنة وراء طراز "الباروك" من العنفوان بحيث امتد تأثيرها إلى القرن الثامن عشر، ثم ما لبثت التغيّرات الاجتماعية الجديدة والأفكار المحدثة والتيارات الجمالية الناشئة عن قيم الأسلوب الباروكي الأساسية أن تضافرت لتشكّل طرازاً جديداً. وفي الوقت نفسه كان أسلوب الباروك الأرستقراطي قد أشرف على نهايته مع رحيل لويس الرابع عشر عام 1715، مما أسفر عن بزوغ طراز "الروكوكو"، فإذا دوق دورليان الوصيّ على عرش الوريث القاصر ينتقل من قصر فرساي الفاره إلى مقر ملكي آخر في باريس، ولم تعد رعاية الفنون قاصرة على البلاط وحده، بل انطوت تحت لواء مجتمع الموسرين من أهل باريس الرافلين في متع النعيم، والذي كان يضم طبقتي البورجوازية العليا والأرستقراطية، ومن ثمّ بات على الفنانين وصل حبالهم بحبال هؤلاء. ولم يقتصر طراز الباروك الأرستقراطي على باريس وحدها، بل كانت كثرة من البلاطات الأوربية تترسّم على نحو أو آخر خُطى قصر فرساي الفنية، عمارةً وتصويراً ونحتاً ونوافيرَ وحدائقَ ورقصاً وغناءً وموسيقى وأثاثاً وأزياء وتقاليد وطقوساً، ومنها بلاط كاترين العظمى قيصرة روسيا وبلاط الإمبراطورة ماريا يريزا في فيينا. وكما كُـتب للفن الفرنسي هذا الانتشار كذلك كُـتب للغة الفرنسية الذيوع فإذا أفراد بلاطات الأمراء والملوك - سواء في روسيا أو بولندا أو ألمانيا أو الدانمرك وغيرها - يتحدّثون بالفرنسية أكثر مما يتحدّثون بلغاتهم القومية، وإذا فردريك الأكبر في بروسيا يشيّد قصراً في بوتسدام يحتذي فيه طراز الروكوكو ويطلق عليه اسماً فرنسياً هو سان سوسي Sans Souci (لوحة 1) بمعنى خلو البال من الهموم. كذلك أمر ملك سكسونيا ببناء قصر زفنجرSwinger بدرسدن الذي يعدّ هو الآخر جوهرة فنية مستلهماً فن المعمار الفرنسي (لوحات 2، 3، 4)، كما شيّد الأمير - الأسقف كارل فيليب جريفنكلاو (لوحة 5) قصراً في فورتزبورج Wurzburg آية في الجمال والروعة مستوحياً الذوق الفرنسي. وكان للمؤلّفين الفرنسيين مثل فولتير وجان جاك روسو جمهور عالمي يقرأ لهم ويسعى إلى كتبهم، كما قُـدّر لرقصات الباليه الفرنسية أن تشيعَ في حفلات القصور الأوربية أجمع، وللمسرحيات الفرنسية أن تهيمن على شتـّـى مسارح أوربا، ومع ذلك ظلّ جنوب ألمانيا والنمسا متأثّرين بالطابع الإيطالي إلى حدٍّ كبير، فإذا قصر شونبرون(1) شيّده المعماري الباروكي النمسوي فيشر فون إرلاخ (1656-1723) كمقر صيفي للإمبراطور ليوبولد الأول (1658-1705). وقد أعادت الإمبراطورة ماريا تيريزا (1740-1780) بناء القصر بالكامل على يد المهندس نيكولا باتشاسي ليأخذ شكله الذي نراه عليه اليوم. والحديقة بممرّاتها وسياجات الشجيرات ونافورة الإله نبتون من تصميم مهندس بساتين احتذى أساليب طراز الباروك. Schonbrunn بفيينا (لوحة 6) يعيد بناءه من جديد مهندس إيطالي للإمبراطورة ماريا تيريزا، تزيّن جدرانه روائع اللوحات الإيطالية، وإذا الشاعر الإيطالي ميتاستازيو Metastasio يقوم - دون الشعراء النمساويين - بنَظْم حوار الأوبرات في أغلب الأحيان - وإذا المسارح الملكية النمساوية لا تعرض إلّا المسرحيات والأوبرات الإيطالية. وانبرى اليسوعيون "الجزويت" أينما حلّوا بعيداً عن روما ينشطون لمناهضة حركة الإصلاح الديني ويعمّقون لأصولهم الدينية بنماذج تضارع النماذج الأرستقراطية.
وحين أصبحت المعارف العلمية والنظريات الاجتماعية التي نادى بها مفكـّـرو العصر خلال القرن الثامن عشر مشاعاً بين الطبقات المثقـّـفة اتسع نطاق "التفكير العقلاني" الذي تمخّض عن حركة التنوير Enlightenment ، وهو مصطلح يعني ما كان عليه الفن بين سنتي 1715 و 1789 حين تحالف المذهبان العقلاني والأكاديمي. وفي الأصل كانت هذه التسمية تعني الحركة الفلسفية بألمانيا التي تزعمها لسنج Lessing ومندلسون Mendelssohn لتحرير التربية والثقافة والعلوم من أغلال القيود الفكرية. كما أطلقت في إنجلترا على النهضة الفلسفية والعلمية التي تزعّمها جون لوك John Locke ونيوتن Newton، وفي فرنسا على مدرسة فولتير Voltaire. واندفعت هذه الحركات الفلسفية جميعاً للتشكيك في سائر القيم والتراكمات التقليدية، داعية إلى الانطلاق نحو الفردية المطلقة، والأخذ بيد البشرية إلى التقدم والرقيّ والإيمان بالمناهج التجريبية للعلوم، والرجوع إلى العقل في كل شيء. وكان هذا المصطلح - أعني مصطلح التنوير - يُظِـلُّ تحت جناحيه اتجاهات شتـّـى، مثل روح الابتكار والبحث العلمي والشروع في إنشاء دوائر المعارف الموسوعية وانبثاق النظرة التفاؤلية نحو مستقبل البشرية. وقد أسفرت حركة التنوير هذه عن دفع عجلة الاكتشافات العلمية التي أفاد منها رجال الأعمال وأقطاب الصناعة في تنمية ثرواتهم. وكان من نتائج هذا الثراء أن تبنـّـت الطبقة الوسطى رعاية الفنون، فإذا الحديث عن الطبقة البورجوازية روايةً ومسرحاً يصبح أمراً مقبولاً على نحو ما يتجلّى في مسرحيتي "ابن السفاح" لديدرو، و"الآنسة سارة سمبسون" لِلسِـنْج. وإذا المصوّر فاتو يرسم لوحاته تلبية لطلبات تجار التحف الفنية، وأفراد الطبقة البورجوازية بعد أن كان تصريف هذه المنجزات الفنية مقصوراً على الطبقة الأرستقراطية، وعلى نهجه سار الفنانون من أمثال شاردان Chardin وجروز Greuze وهوجارث Hogarth فانطلقوا يبيعون صورهم ورسومهم لأفراد الطبقة الوسطى. وكما هو متوقـّـع فقد اتجه النحت البورجوازي صوب مجال فن البورتريه، فرأينا المثـّـال أودون Houdon يتقدّم بإحساسه المرهف صفوف أقرانه من المثـّـالين، وإذا مشاهير القرن الثامن عشر في أوربا وأمريكا يسعون إليه ليجلسوا أمامه كي يصوّرهم نحتاً، وما أكثر التماثيل النصفية التي أنجزها للفيلسوف فولتير (لوحة 7) وبات رسم شخصية "الكونت" بمظهر الشرير في مسرحيات بومارشيه Beaumarchais وفي أوبرات موتسارت Mozart مثل "زواج فيجارو"، ورسم شخصية الخادم بمظهر البطل الإيجابي، محاولة فنية للنيل من الأرستقراطية. وإذا الرعاية الجماهيرية الجماعية لحفلات الاستماع الموسيقي تحلّ محلّ رعاية البلاط المحدودة. وبدلاً من محاولة إرضاء راع واحد للفن أصبح المؤلّف الموسيقي والعازف والمغنّي يسعون جاهدين إلى رضاء الجماهير الغفيرة، فإذا موتسارت على سبيل المثال يقطع صلته براعيه الأمير - الأسقف معتمداً على ذاته مؤلفاً موسيقياً حرّاً مستقلاً. ولم يكن من قَبيل المصادفة أن تعهد بلدية مدينة فيينا - دون بلاط القصر الإمبراطوري - إلى موتسارت بتأليف أوبراه "دون جوفاني" الشامخة. على أن روح التنوير هذه المتّجهة نحو البحث العلمي المتحرّر من كل القيود التي انبثقت من عقلانية القرن السابع عشر لم تظفر برضاء الكنيسة التي رأت فيها عقيدة بديلة تهدّد كيانها، لاسيما أن أصحاب نظرية التنوير كان لهم رأيهم الخاص في الألوهية بعد أن اعتنقوا عقيدة "التأليه الطبيعي" Deism، فإذا هم يؤمنون بإله لا يصدر عنه وحي أو تنزيل أو رسالات، كما نادوا بالنظرية الآلية للطبيعة فإذا هم يمثّلون الربّ من هذا المنطلق بصانع ساعة، والكون ساعته، شدّ [زمبركها] ليدور دورة لا نهاية لها. وهكذا كان المنهج العلمي التجريبي هو أهم طقوس تلك العقيدة المبتدعة، ودائرة المعارف الموسوعية Encyclopedie إنجيلها، والطبيعة كنيستها، والمختلفون إلى هذه الكنيسة من العقلانيين هم جمهورها.
وإذ كانت دوائر المعارف من ثمار حركة التنوير، فقد شارك كل المفكرين أصحاب الرأي في إعداد دائرة المعارف التي أصدرها دني ديدرو Denis Diderot في عام 1751 بمعاونة الفيلسوف دالنبير Dalembert والمسمّاة "المعجم المدروس للعلوم والفنون والصنائع" تنتظم القواعد التي فرضتها النزعة العقلانية والروح العلمية لتنطوي على شتّى المعارف التي كانت موزّعة في النشرات العلمية ذات الأسلوب العسير على الفهم، فإذا هي تغدو جليّة في أسلوب ميسَّر بيَّن، كما كشفت الموسوعة عن أسرارٍ للصنائع كانت خفيّة متوارثة بين أهلها فحسب. ومن كتّابها كان فولتير Voltaire الذي اختص بالقسم التاريخي وجان جاك روسو Rousseau الذي اختص بالقسم الموسيقي، ومنتسكيو Montesquieu الذي اختص بالعلوم الاجتماعية. ثم ما لبثت هذه الروح الموسوعية أن شملت الإنتاج الموسيقي المتكامل لجان سباستيان باخ Bach، الذي غدا عالماً يلمّ بأطراف كل ما هو متاح من الأسس الموسيقية.
لقد أصبح للطبقة الوسطى نصيبها وحقّها المشروع في المشاركة برأيها في كل ما هو عقلاني فناً وعلماً. وحين ملكت تلك الطبقة حظّها ثراءً وعلماً غدت قوة ناهضة تتحدّى سلطة الأرستقراطيين القديمة وتنزع عنها امتيازاتها. وبعد أن توفّر لها حظ كبير من المعارف خلعت عنها أغلال المعتقدات الخرافية البالية متحرّرة من قيود الماضي، فإذا الحرية الواسعة التي تمخّـضت عنها حركة التنوير تتفجّر عنها الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. وما لبثت الطبقة الوسطى أن استنارت وغدت قارئة تطالع لمؤلفين من صفوفها، ولها موسيقاها التي برعت في وضع أسسها فتوجّه أفرادها إلى الاستماع إليها، وأصبحت لها القدرة على شراء اللوحات المصوّرة، كما شيّدت مبانيها على أنماط أملاها ذوقها هي.
على أن فلسفة التنوير كان لها أيضاً ما عاقها وتحدّاها، فلقد رافق ظهورها اتّجاه مناهض لها وهو رفض العقلانية، مرهصاً برومانسية القرن التاسع عشر. وعلى نحو ما كان التطرّف في العواطف الدينية من ضرورات الإيمان المطلق بالوحي والتنزيل، كان "الحدس" في الآداب والفنون يجافي العقلانية، فإذا بطل الرواية في إنجلترا هو المتحدّث نفسه، على نحو ما انطوت عليه قصص فيلدنج Fielding، وإذا أسلوبها يجمع المشاعر الذاتية في نفوس القراء على التأثّر بالبطل، على عكس ما ينادي به مذهب "التنوير" من النظر إلى الأحداث نظرة موضوعية محايدة. وثمّة مثل آخر يتجلّى في عنوان رواية جين أوستين "العقل والعاطفة" Sense and Sensibility، الذي تعني به ما عليه أبطال روايتها من صفات، وهو عنوان لاشك يستفز الفكر التنويري. وفي فرنسا أضفى روسو مسحة وجدانية على حركة التنوير أملتها حساسيته المرهفة واستعداده الفطري لكل ما يثير الإحساس بالتعاطف والحنان والألم إلى غير ذلك من مشاعر. وفي رواية "كانديد" ذات الأسلوب الساخر صوّر فولتير الإنسان الملتزم بما يُمليه العقل لا يحيد عنه، مندّداً بالرأي الذي قال به الفيلسوف ليبنتز من أن عالمنا الذي نعيش فيه هو خير ما يكون، فإذا فولتير يجعل إحدى الشخصيات العقلانية التي توالت عليها المصائب والكوارث لا تملك في نهاية الأمر إلا الاستكانة للهزيمة، مكتفية برقعة صغيرة من الأرض تزرعها وتعيش عليها. كذلك لم تُفلت الصورة المرئية من لمسة السخرية اللاذعة على يد المصوّر الإنجليزي هوجارث Hogarth التي نقد فيها مجتمعه لا سيما في مجموعته المسمّاة "الزواج على نهج العصر" Marriage a la Mode. كما تجلّت روح التنوير في نموذج بيّن في آخر أوبرا لموتسارت هي "النايْ السحري" Magic Flute حيث نرى القوى العقلانية تتكاتف مُعلنةً الحرب على قوى الظلام والجهل والشرّ إلى أن يحسم انتصار العقلانية الصراع في الختام. وكان لروح التنوير أثر واضح في الحضّ على التفاؤل؛ فعلى حين ركّـزت المسيحية على خطيئة آدم فكان جزاؤه الطرد هو وزوجته من الجنّة، ذهبت نظرية المعرفة عند أفلاطون إلى أن الإنسان كان في الأصل يعيش مع الآلهة لا يصدر عنه إلا الكمال المطلق. وما نراه في الإنسان من كمال من حبّ للمعرفة مردّه إلى حنينه إلى جنّـته الأولى في صحبة الآلهة وما هم عليه من كمال. وعلى حين آمن دارسو الآداب القديمة وشجون البشرية مثل إدوارد جيبون - بعد أن استبعدوا الدراسات الدينية - بما أَغْرَقَ به الفكر والفن كلّاً من اليونان وروما القديمتين [ومن هنا جاءت مؤلّفاتهم الضخمة التي تولّت مهمة الإجابة على قضية لِمَ كانت ثمّة نهضة ولم كان ثمة اضمحلال]، ذهب أصحاب حركة التنوير - دون أَن ينكروا عظمة اليونان وروما - إلى أن العقلانية إذا طُبّقت بحذافيرها آتت ثماراً أينع وأنضر من تلك الثمار القديمة، وهو ما يتجلّى فيما ذهب إليه كوندورسيه Condorcet عن "نظرية التقدّم" Progress of the Human Spitit حيث عدّد المراحل العشر التي مرّ بها الإنسان في مشواره من الوحشية إلى الكمال إلى استخدامه قواه الذهنية إلى أبعد مدى ممكن، فلا تعود تنفسح أمامه غير سبيل واحدة تقوده إلى الأمام وإلى ما هو أسمى، وهكذا تمخّضـت قوى التفاؤل المتحدّية عن اندلاع الثورة الفرنسية، وعن لوحات المصوّر دافيد، وعن موسيقى بيتهوفن. على أن ثمّة حركة فكرية أخرى نشأت في ألمانيا استلهمت نظريتها من الوجدان سُمّيت حركة "العاصفة والاندفاع" Storm and Stress (1760 - 1785)، ويقال إن هذا الاسم الذي تسمّت به يمتّ إلى مسرحية بهذا الاسم لمكسمليان فون كلينجر (1752 - 1831). وترجع نشأة هذه الحركة الفكرية إلى ثورة شبّان من الطبقة الوسطى - كانوا على حظ من الاستنارة والثقافة - على ما لاحظوه من جمود في حركة التنوير التي كانت تغلّب العقل على العاطفة.
وقد أخذت هذه الحركة الفكرية بمبادئ روسو وجعلت منه رائداً لها، فلقد رأوا رأيه في أن الطبيعة بجوهرها خيرٌ من زيف الحضارة، وأن ما تُمليه العاطفة خير مما يمليه العقل. وكان من أهم روّاد هذه الحركة جوته [آلام فيرتر 1774] وشيلر [قـُـطـّـاع الطرق 1781] في سنوات شبابيْهما. ونادت هذه الجماعة بعدم الخضوع لقهر قاهر، كما طالبت بالحرية الفردية وبالتحلّل من أَسْر القواعد الخُـلقية المألوفة جاعلة نصب عينيها الالتزام بالتلقائية والانتقال المفاجئ من الشيء إلى نقيضه ثم لا بأس من العودة إلى ما كان أولاً، وقد عدّت الشِّـعر موهبة فطرية بيئية أولى للشعوب، ومن هنا كان اهتمامها الخاص بالقصص الشعبي وبالملاحم وبالقصص التوراتي، كما غلبت على قصائد شعراء هذه الحركة البنية القصصية الغنائية مستلهمة أفكارها من الأغاني الشعبية التي سادت قبلُ خلال القرون الوسطى، فإذا هم لا يلتزمون إلا بما يُمليه عليهم الخيال المبدع، فذهبوا مع بيرك Burke (1756) في "مقولته عن الجلال والجمال" إلى أن ثمّة عنصراً في الأدب والفن يفوق "الجمال" هو الجلال، فعلى حين يبعث الجمالُ البهجة في النفوس يثير الجلالُ الرهبة فيها. ومن هنا كان تعلّقهم بأوصاف روسو للطبيعة البدائية في ثوبها الحُوشي غير المنسّق مما أثار في النفوس حنين العودة إلى الفطرة والطبيعة. فعلى حين حاول أصحاب حركة التنوير ترويض الطبيعة وجعل زمامها في يد الإنسان، أقام أصحاب حركة "العاصفة والاندفاع" للطبيعة سلطانها القاهر الذي لا يسبر له غور.
وكما أعدّ الفنان العبقري الخالد موتسارت الذي سيطر على قلوب الناس خلال القرن الثامن عشر موسيقى الحجرة للعزف في صالونات المجتمع الأرستقراطي، قدّم أيضاً أوبرا قصيرة لقصر شونبرون الإمبراطوري وعددأً من الأوبرات الفكاهية الألمانية للمسارح الموسيقية الشعبية. وبلغ أسلوبه ذروة التعبير الموسيقي على المستوى العالمي في مؤلّفاته لدور الأوبرا العامة ولقاعات الموسيقى التي كان يؤمّها النبلاء والعامّة معاً حيث تلامس مناكب الأرستقراطيين مناكب البورجوازيين، وهي الدور والقاعات التي هيّأت لموسيقاه طريق الشهرة الدولية. فقد تميّزت أوبراته بطاقة درامية جيّاشة فإذا مواقفها التراجيدية والفكاهية تُضفي عليها لمسة إنسانية مؤثرة، كما تسلّلت هذه الطاقة الدرامية إلى موسيقاه السيمفونية المطلقة فإذا سيمفونياته الإحدى والأربعون بجانب كونشرتاته لمختلف الآلات تأسر العازفين والمستمعين في جميع أنحاء العالم حتى اليوم. وكان قد جاب بصحبة أبيه أهم المراكز الموسيقية بأوربا، وأتيحت له فرصة اللقاء مع أعظم المؤلفين وأفاد من ذلك كله فتمثّل قيادات الفكر الموسيقى المعاصرة، واستهوته في لندن مؤلفات يوهان كريستان باخ ابن باخ العظيم والتي كانت تمثّل تحوّلاً عن موسيقى كل من أبيه يوهان سبستيان باخ وهيندل، فإذا موتسارت يهجر أسلوب الفخامة واستعراض المبتكرات الإيقاعية والضخامة الصوتية في الموسيقى التي تميّز أسلوب الباروك لينطلق معبّراً بنبرات أسلوب الروكوكو الرشيق المنمّق بعد أن التقى في باريس بأساطين فن "الموسيقى" وخاصة في نطاق موسيقى الآلات ذات لوحة المفاتيح أمثال رامو، وتعلّم من كويران العظيم الأناقة في الكتابة وعذوبة الأسلوب الذي يدغدغ الأذن، ولقن عن أوبرات جلوك النظرة الدرامية العميقة الشاملة، وحبك النسيج الدرامي في الأوبرا، واستبعاد العناصر قليلة الأهمية بالنسبة للحدث الدرامي، واستهواه في إيطاليا الإعلاء من شأن جمال الصوت الغنائي الآدمي وجميع عناصر الجاذبية والشاعرية التي تتميّز بها الشعوب اللاتينية، ثم استمع إلى أعظم فرق الأوركسترا بأوربا وأَسرته مقدرة العازفين على مختلف الآلات، وهو الأمر الذي أفاد منه كثيراً في توزيعاته الأوركسترالية، كما أخذ عن هايدن القدرة على التعبير المكين في نموذج السيمفونية، واكتشف أسرار الأوبرا الجادة لمدرسة نابولي وكذا أسرار الأوبرا الهزلية مثل أوبرا "الخادمة السيدة" لبرجوليزي، كما عرف الأوبرا الفكاهية الألمانية. لقد بلغ موتسارت الذروة بأسلوب الروكوكو المتميّز بالهارمونيات البسيطة والزخارف اللحنية الرائعة القائمة على ارتجالات ذات ألحان بسيطة، وكان هذا التطوّر على يديْه بمثابة رد فعل للتعقيد الذي بلغه أسلوب الباروك ذو الخطوط اللحنية المتعدّدة، ولتي بلغت أحياناً ستة عشر خطّاً لحنياً مما يشقّ على المستمع تتبّعه وإدراكه. وما من شك في أن موتسارت قد تأثّر بحركة "التنوير" التي قامت إثر مكتشفات نيوتن العلمية، وتجلّى تأثّره بها في ميله إلى الوضوح المنطقي والوحدة في بناء صوره الموسيقية على اختلاف أنواعها. كما تحمّس للمذهب الطبيعي الذي نادى به روسو وهو ما عبّر عنه في رسائله الشخصية العديدة، واغترف معارفه الأدبية من نشاط حركة "العاصفة والاندفاع" التي نادت بسطوة الطبيعة وتسلّطها على الإنسان بإرادتها الغامضة مناقضةً في ذلك حركة "التنوير" العلمية التي تؤمن بإمكان إخضاع قوى الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان عن طريق العلم.
وهكذا انصهرت في بوتقة ذكائه الحاد جميع المذاهب العلمية والأدبية والموسيقية التي ظهرت في عصره، ثم ما لبثت أن انبثقت من خلال فكره الخلّاق في مبتكراته الموسيقية، فإذا هو يعكف على تطوير أسلوب الروكوكو إلى كلاسيكية رصينة، وإذا هو يلتفت بكل كيانه إلى الأوبرا التي وجد فيها النموذج الجدير بضمّ جميع الأفكار والمصطلحات والأساليب في إطار شامخ تبدو معه وكأنها تُرى من خلال "منظار مجسّم"، إذ كان موتسارت يعدّ المسرح الموسيقي الوسيط الطبيعي الذي يتجلّى من خلاله التعبير الصادق. وما أشبه مقدرة موتسارت على رسم الشخوص المسرحية بمقدرة شكسبير وإن قامت مسرحياته على عناصر موسيقية، فكان يبعث خلالها الحياة في شخصياته باستخدام الجمل الموسيقية المبتكرة الإيقاع ويدفع بها خلال المواقف المختلفة، كما استطاع أن ينمّي الأحداث المتشابكة عن طريق التحويرات الهارمونية والحِيَل الكونترابنطية. وكان مجاله الشعوري في الأوبرا متّسعاً رحباً، فهو ينتقل في يُسر من الموقف البهيج إلى المأساوي، ومن الموقف الهادئ إلى المضطرب، ومن الجاد إلى الهازل، ومن الساكن إلى الثائر، ومن الفاضل إلى الشّرير في نطاق زمني قصير. ومع ذلك تجري انتقالاته تبعاً لحساب دقيق وداخل حدود مرسومة تكشف عن سيطرته الكاملة على جميع المواقف والتعبيرات.
- طراز الروكوكو
شاع طراز الروكوكو الفني في أوربا خلال الفترة من حوالي 1730 إلى حوالي 1780، ويتميّز بالزخارف ذات الخطوط اللولبية المنحنية المحاكية لأشكال القواقع والمحار والأصداف، أو الموحية بأشكال الصخور في الكهوف والمغارات لا سيما في فن صناعة الأثاث وزخارف التنسيق الداخلي بالدور. وهو فن أرستقراطي فيه إفراط في الشغف بالأناقة أسلوباً وموضوعاً. وبرحيل لويس الرابع عشر انتقل طراز الباروك الأرستقراطي - كما سبق القول - إلى مرحلته الأخيرة وهي الروكوكو بعد أن لم تعد رعاية الفنون احتكاراً للبلاطات بل تلقّفها مجتمع باريس الراقي الذي يضم الطبقة البورجوازية العليا وأرستقراطية المدن، والذي ما لبث أن تبنّى رعاية الفنون. والراجح أن كلمة روكوكو rococo - وبها جناس مع كلمة باروكو barocco - قد اشتُقّت من كلمة rocaille بمعنى الصخر وكلمة coquille بمعنى القوقعة أو المحارة أو الصَّدفـَة، إذ غدت الصخور المحاريَّة الأشكال والقواقع والأصداف تُستخدم على نطاق واسع كصيغ زخرفية في الطراز الباروكي الشائع، حتى ليمكن اعتبار طراز الروكوكو تعديلاً طرأ على طراز الباروك وإثراء له غير متعارض معه ولا مناقض له. وبعبارة أخرى هو طراز باروكي انتقل إلى داخل الدور والقصور ليواكب أناقة الدور التي أنشئت في المدن أكثر مما يواكب أبهاء القصور وإن استُخدم في كليهما. وهكذا استـُحدث طراز الروكوكو لتـُـزَخْرَف به الدور من الداخل لاسيما الرّدهات والقاعات الصغيرة المخصّصة لتلاقي الأصدقاء والمعارف يتبادلون الأحاديث في جلسات السَّـمر. وقد شمل طراز الروكوكو كافة الفنون الكبرى كالنحت والتصوير والعمارة والموسيقى. إلى جانب الفنون الزخرفية التي غشّت كل ما في الداخل، من المنحنيات الرشيقة لأرجل المناضد والمقاعد والأرائك إلى اللفائف الحلزونية المذهّبة التي تـُـجمِّـل السقوف والجدران. ولعل النموذج الأمثل الدال على فن هذا العصر هو الرسوم المطبوعة بطريقة الحفر التي أعدّها الفنان أنطوان فاتو مُستخدماً أشكال المحار والصّدف ببراعة فائقة تسنّى معها استعارة عناصره وصيغها في شتى مجالات الزخرفة سواء في الكسوات الخشبية على الجدران، أو فوق ورق الحائط المطبوع، أو في مشغولات الجص والطين المحروق والمطليّـة باللونين الأبيض والذهبي، أو في تطهيم نسجيّة مرسّمة أو مطرّزة تكسو ظهر مقعد أو أريكة، أو نحتاً فوق سطح مدفأة إلى غير ذلك. ونحن إذا قابلنا التنسيق الداخلي وفقاً لطراز الروكوكو بقصر شونبرون بفيينا (لوحة 8) على سبيل المثال بالتنسيق الداخلي في عهد لويس الرابع عشر تجلّى لنا الفارق بينهما بوضوح، فعلى حين كان طراز الباروك مهيباً جليلاً مبهراً كان طراز الروكوكو جذّاباً رقيقاً رشيقاً رهيفاً، فإذا الرّقّة تحلّ محلّ الشموخ والضخامة، وإذا الأناقة تحلّ محلّ الجلال والفخامة، وإذا رقّة الألوان الطباشيرية تحلّ محلّ تيه الذهب والأرجوان.
وكما ألّف رامو Rameau وجلوك Gluck وموتسارت Mozart الأوبرات خلال القرن الثامن عشر لعرضها في دور الأوبرا العامة حيث تلامس مناكب الأرستقراطيين مناكب البورجوازيين كما أسلفت، انتقلت الفنون من قاعات القصور الرخامية الفارهة إلى الصالونات الصغيرة الأنيقة حيث أصبحت الرقة والجاذبية والرشاقة قيماً جمالية تَبُزُّ العظمة والإبهار. كذلك أطلق هذا المصطلح في الفترة بين 1720 و1770 على الشِّـعر الألماني الذي واكب طراز الروكوكو من حيث الزخارف اللفظية المسرفة والإغراق في التكلّف.
ومن بين أشهر المباني ذات طراز الروكوكو قصر البلفدير Belvedere الصيفي المطلّ على الحديقة في فيينا (لوحة 9) والقصر الذي شيّده المهندس لوكاس فون هيلدبراندت Hildebrandt، والمتميّز بخط أفقه المتكسّر وأبراج أركانه الأربعة التي لا تدين إلا قليلاً للنماذج الفرنسية والإيطالية السابقة عليها. ونلحظ على الفور الذوق الزخرفي وقد انطلق في سخاء منبثقاً من الأبواب ليكسو السطح الخارجي للواجهة بأسرها، كما نجد التفاصيل التي انفرد بها المهندسون الفرنسيون داخل المباني قد انتقلت على يد هذا المهندس إلى الواجهة المطلّة على الحديقة، ضارباً عرض الحائط بالرصانة المأثورة عن بالاديو مهندس عصر النهضة، فنشهد على جانبيْ نوافذ الطابق الثاني بعض الأعمدة الملتصقة المركّبة المفرطة في زخارفها، كما نرى فوق المدخل بعض تماثيل الكارياتيد متجمّعة وكأنما تجسّد تشكيلات كوريوجرافية لفريق من راقصي الباليه. وباستثناء هذه العناصر اختفت الطرز المعمارية المأثورة تماماً، فتلاشت سكينة واجهة المعبد المثلّثة، وتبدّدت أطر النوافذ الأكاديمية الطراز ليحلّ محلّها نموذج متدفّق فوّار من المنحنيات المتعرّجة والإيقاعات المتكسّرة عن عمد. وهكذا يشدّنا هذا النزوع نحو ترصيع المستوى المسطح بالمنحوتات الذي يتيح الفرصة لتلاعب النور والظل تلاعباً يتغيّر بتغيّر أوقات النهار بحيث تبدو الواجهة وقد غشّـتها دوّامات الحركة بلا توقّف، فإذا ما انتقلت العين أفقياً من جانب إلى آخر تعاقبت الأشكال المقعّرة والمحدّبة في إيقاع مرهف آسر. ويمكن القول إن طراز "الروكوكو" الذي بلغ الغاية رقّة ولطفاً وعذوبة كان آخر طراز أوربي التزم بالأسس الجمالية المتعارف عليها كُتب له الانتشار والشمول في العالم المتحضّر، ومردّ ذلك إلى أن زمام الأمر كان في أيدي فلول آخر طبقة أرستقراطية ذات صفة اجتماعية دولية تملك بها أن تكون راعية للفنون. وإذا نحن بعد قيام الثورة الفرنسية وحروب نابليون نرى القوميات الإقليمية وقد قويت شوكتها، فظهر أثر ذلك في الفنون التي غدت تحمل دلالة قومية تفوق دلالتها العالمية، وإذا موضوعات الفن تُمسي قومية محلية أكثر منها عالمية.
وكان للفكاهة اللمّاحة وروح الدعابة الذكية أثرهما في فن القرن الثامن عشر الذي لم يكترث لاعتراضات الكنيسة أو الدولة. وطراز الروكوكو وإن لم يكن طرازاً بمعنى الكلمة - كما ذهب البعض - فهو لاشك نقيض لطرز سابقة، فإن التطلّع إلى الوراء نحو طرز أخرى تبدو على فخامة وجلال وروعة سبق بها القرن السابع عشر، وحمل لواءها قادة مثل البابا أوربان الثامن والملك الشمس لويس الرابع عشر، قد يشي بأنها جوفاء لا طائل منها. ويؤيد هذا الرأي ما ذهب إليه ماثيو بريور Prior بعد طوافه بأبهاء قصر فرساي وقاعاته فإذا هو يرمي الملك بالحمق الذي تجلّى في لمساته الجوفاء حين شيّد هذا المقرّ: "حيث لا يكاد سقف أو جدار يخلو من صورة له، الأمر الذي يبعث على السخرية، فلو عنّ له أن يبصق وهو يلوي عنقه يمنة أو يسرة، لم يجد إلا صورة من صوره أو صورة الشمس التي تليه منزلة.... يبصق عليها".
وما لبثت فرنسا مع بداية القرن الثامن عشر تخفّفت شيئاً من سطوة الفن الباروكي إسرافاً وشططاً، بعد أن أوشك هذا الإسراف وذاك الشطط أن يهبطا بالدولة إلى دَرَك الإفلاس، هذا إلى ما لحق ذلك من إفساح الطريق ممهَّداً أمام العقلانية. أما إنجلترا فلم تطالعنا بتصوير قومي من طراز الباروك بل تلقّفت هذا الطراز عن مصورين أوربيين ليسوا من رعاياها. كذلك لم نجد إيطاليا - وهي البيئة التي نشأ فيها طراز الباروك - تُفسح صدرها بالقدر الكافي خلال تلك الحقبة لرعاية كبار مصوّريها الزخرفيين مثل الفنان العظيم تييبولو الذي لم يحْـظ بالرعاية الجديرة به في موطنه على حين ظفر بها في دول أوربية أخرى، وهو ما لم تفعله ألمانيا وإسبانيا، فلقد رَعَـتا فنانيهما رعاية حانية.
وعلى حين جنح هذا القرن إلى التخفّف من إسباغ الروعة والجلال على التصوير الزخرفي التفت إلى موضوعات الحب والغزل مفضّلاً إياها على تمجيد الحكام وإعلاء شأنهم، فإذا الملوك يتحلّلون شيئاً فشيئاً من استخدام الرموز التي تشير إلى مآثرهم وعلو كعبهم، وإذا بنا نرى فردريك الأكبر في بروسيا وكاترين العظمى في روسيا يسايران روح العصر بفكر نيّر هداهما إلى التخفّف شيئاً من الاستبداد. وعلى الرغم من أن لويس الخامس عشر قد صُوَّر وهو غلام في وضعة تحاكي ما كان لأسلافه من عنجهية وتعال يُضْـفيهما عليهم زيّهم الفخيم المميَّز، فقد هداه فكره حين شبّ إلى مجاراة العصر فتنازل عن بعض ما كان لأسلافه من استبداد مطلق وغطرسة واستعلاء. وهكذا نجحت النزعة العقلانية في انتزاع أشرعة الفن الباروكي من "صواريها"، وأصبح مَن يساندون هذا الفن الباروكي بمعزل عن مجريات العصر. ومن هنا تعذّر على الفن الباروكي بأبّهته ومهابته أن يُدخل البهجة على قلوب الناس رغم سطوة إبهاره، بقدر ما كان يسعدهم فن الروكوكو بما يعرضه من موضوعات بسيطة أليفة تتفق ومشاعرهم وميولهم. كان القرن الثامن عشر معنياً بالإنسان إنساناً، غير ملتفت إلى جنسه أو بيئته، فكان الناس في نظر هذا القرن سواسية لا يفرّق بينهم دين أو وطن، ومن هنا كان لفيلسوف هذا القرن منتسكيو كلمته المأثورة: "أنا إنسان قبل أن أكون فرنسياً" “Je suis homme avant etre Francais”.
في هذه السنوات حظي الفنان بحرية لا تعدلها حرية إذ خَـلـُـص من أسْر تسخيره لأهواء الحاكم المستبدّ تاركاً لنفسه العنان يصوّر الأحداث التاريخية وفق خياله هو لا التزاماً بمزاج الحكام، مطّرحاً تلك التصاوير المعنية بعرض المواعظ الخلقية. ونلمس هذه الحرية جليّاً في لوحة رسمها الفنان الفرنسي شارل كوابيل Coypel عام 1732 عَنونها "ربة التصوير تطرد ثاليا ربّة التاريخ" (لوحة 10) فجاءت صادقة مفعمة بالحيوية شأنها شأن كتاباته قبل أن يتقلّد منصب مدير الأكاديمية الملكية ويغدو المصوّر الأول للملك. فنرى ربّة التاريخ مستغرقة هي وصويحباتها في جمع المخطوطات المكدّسات على حين تطردها ربة التصوير من المرسم دون مراعاة لتماثلهما مكانة. كذلك أقرّ كوابيل رسالة الفن الاجتماعية وبأحقية كل فرد في الإدلاء برأيه بعد أن كان هذا الحق حكراً على متذوّقي الفنون وحدهم، فإذا الفنون الجميلة حق للناس جميعاً من أصحاب الحسّ المرهف، ومن هنا بات من المسلّم به رحيل أسلوب الباروك الفخم الضخم إلى غير رجعة. ولقد شجّع هذا التحرّر الفنانين مثل المصوّر بوشيه وغيره على عدم الالتزام بحرفية الأساطير الكلاسيكية، كما غدا تناول الموضوعات الإغريقية والرومانية هو الذريعة التي يتعلّل بها الفنانون لتصوير الشخوص عارية. وفي البندقية حيث كان ثمة تقاليد راسخة للتصوير قدّم تييبولو رؤاه الخاصة عن العالم القديم بعد أن أضفى عليه الكثير من إملاء خياله، وبعد أن تأثر بأعمال المصوّر فيرونيزي وبتصاوير مناظر الأوبرا. وانفرد المصوّر فاتو بتصوير المناظر الضبابية الموحية بالاسترخاء على غرار ما كان يدور في الروايات التي تصف حياة أهل الريف والرعاة وقتذاك، حيث تجول السيدات الأنيقات برفقة عشّاقهن الذين لا يقلّون عنهن أناقة في أوقات فراغهن وسط حدائق مورقة مزهرة في محاكاة خيالية لحياة رعاة أركاديا(2) Arcadia أركاديا اسم إقليم ساحر في شبه جزيرة المورة باليونان أطلقه فرجيل في شعره الرعوي على البيئة الزاخرة بالطمأنينة والسكينة خلال العصر الذهبي. "المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية". د . ثروت عكاشة لونجمان 1990= م. م .م . ث". في اليونان القديمة. وقد تناول فاتو مثل هذه المشاهد بحساسية شديدة وبألوان كألوان الجواهر ألقاً ورهافة لا تكاد فروقها الدقيقة تـُـدرك، مهّدت الطريق لتطور أسلوب الروكوكو. على حين كان بوشيه Bouchet المصوّر الأثير لدى مدام ده بومبادور أوفر مرحاً من فاتو، حيث يتجلّى في صوره المثل الأعلى لاصطناع الإغراء الأنثوي، وإذا الحب لا يعود هو تلك العاطفة العنيفة المأثورة عن روبنز بل بات الحب هو الغزل الرفيع، وإذا أشكال الصّبايا الممشوقات تحلّ محل نساء روبنز المكتنزات. وخلّف بوشيه تلميذه فراجونار Fragonard عميداً لطراز الروكوكو الفرنسي، فإذا لوحاته تكشف عن اهتمامات الطبقة الأرستقراطية اللاهثة دوماً وراء الرغبات المثيرة. وكان لإحساس هذا المصور الرهيف بالألوان وقدرته المذهلة على الرسم والتصوير الفضل الأكبر في إنقاذ لوحاته من احتمال الإفراط في التأنّق الهابط في وهدة الابتذال. وتكاد أعمال المثّال كلوديون تثير فينا الشعور نفسه بعد أن حوّلت قدرته الفذّة على التجسيم السريع للصلصال إلى وسيط مناسب لتسجيل اللحظات العابرة للرقصات الباكخوسية الماجنة عبر تماثيله المنمنمة ولوحاته الفخارية، فجاءت أشكاله أكثر صراحة في الإثارة الحسيّة من أشكال اللوحات المصوّرة في عصره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق