2025-05-03

الوجبات السريعة ومخاطرها

 



دكتور محمد الشافعي 

في زحام الوجبات السريعة واللهاث وراء التقليد الغربي، تُطرح أسئلة حارقة: هل ما نأكله يُشبهنا؟ هل صارت شهوة البطن تلتهم ما تبقّى من هويتنا؟

في هذا المقال العميق، يتناول مؤلف المدونة بجرأة وتحليل دقيق ظاهرة الانتقال من الإنتاج إلى الاستهلاك، وانعكاس ذلك على الاقتصاد، والمجتمع، والصحة، وحتى الذوق العام. دعوة صادقة لإعادة التفكير... قبل أن نلتهم أنفسن.

..................

المقال:

في هدوءٍ ماكر، يتسلّل إلى المجتمع المصري تحوّلٌ اقتصاديّ منظّم، لا يُقرَع له طبل ولا يُرفَع له شعار، لكنه يعمل كالسُّمّ الزعاف، ليتغلغل في نسيج المجتمع ويبدّل ثقافته من ثقافة الإنتاج والعمل، إلى ثقافة الاستهلاك واللهاث خلف الشهوات، وعلى رأسها شهوة البطن، التي كانت أول طريق الخروج من الجنة.

نجد اليوم، في أحياء المدن وشوارع القرى، طوفانًا من المطاعم والمقاهي والعربات المتنقلة، تقدم وجباتٍ سريعة باردة وساخنة، من البيتزا والبرجر إلى الحواوشي والفطائر والحلويات. تنتشر هذه المشروعات في كل ركن، وتُسوّق كأنها قصص نجاح في ريادة الأعمال، بينما تُخفي في جوهرها خللًا اقتصاديًا واجتماعيًا يتفاقم يومًا بعد يوم.

وفي وقتٍ تعاني فيه البلاد من تضخم متسارع، وغلاء أسعار، وتزايد معدلات البطالة والديون، نرى هذا المدّ الاستهلاكي يتمدد بلا رادع، يُضعف دخل الأسر، ويؤدي إلى تآكل ثقافة الطهي المنزلي المصري المتوازن، في ظل غياب الوعي بأثر هذه الموجة على الهوية الاقتصادية والاجتماعية.

لقد صار الطعام وسيلة استعراض اجتماعي بين الشباب والأطفال، في تقليدٍ أعمى للغرب، دون مراعاة لخصوصيتنا الثقافية أو لواقعنا الاقتصادي. طعامنا المصري الأصيل، الذي يعكس عراقة المطبخ وثقافة الأسرة، يُزاح جانبًا ليحل محله طعام معلب في هيئة سندوتشات وعلب بلاستيكية.

ولا تكمن الخطورة في وجود مشاريع صغيرة بحد ذاتها، فذلك باب رزق مشروع، بل في تحوّل هذه الظاهرة إلى نمط استهلاكي جارِف يهدّد التوازن الاقتصادي للأسرة، ويخلق فجوة بين ما يُنفق وما يُنتج.

والأدهى من ذلك، أن بعض أسماء الوجبات المطروحة تخدش الحياء العام وتُروّج لثقافة لفظية مبتذلة، تجعل من الوقوف لطلب الطعام موقفًا محرجًا، خاصة للنساء، حين تُجبر على التلفظ بأسماء كـ"فياجرا" أو "قشطوزة" أو "سندوتش ملهلب قوي".

أما على مستوى دخل الأسرة، فحسابٌ بسيط يوضح الكارثة: إذا خرجت أسرة بسيطة في نزهة خفيفة، وطلبت لكل فرد ساندوتشًا لا يقل عن خمسين جنيهًا، فإن الفاتورة قد تتجاوز ثلاثمائة جنيه بسهولة، ناهيك عن الحلويات والمشروبات. هذا الإنفاق العاطفي يُنهك الميزانية الشهرية، ويخلق ضغوطًا نفسية على الأسر، خصوصًا الأطفال الذين يسعون لمجاراة هذه المظاهر.

تحقّق هذه المشاريع الاستهلاكية أرباحًا كبيرة، بأسعار لا تعكس تكلفتها الحقيقية، وتنتشر حتى في المجتمعات الفقيرة، ما يكرّس طبقة استعراضية يُصبح فيها الطعام وسيلة تفاخر أمام مجتمع يئن من الفقر.

أما الأثر الاقتصادي الأعمق: فيكمن في نزيف العملة الصعبة، إذ أن 90% من أدوات ومعدات المطاعم مستوردة بالكامل، من الأفران إلى القلايات، وحتى أدوات المائدة من ملاعق وشوك وأطباق، ما يُضعف الصناعة المحلية، ويُحوّل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد خدمي هش، بدلاً من اقتصاد منتج قائم على الصناعة والزراعة.

وعلى صعيد الصحة العامة: فالوجبات السريعة مليئة بالدهون المشبعة، والسعرات الحرارية المرتفعة، والسكريات المضافة، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل السمنة، والسكري، وأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والأنيميا.

إننا بحاجة إلى وقفة جادة. أطالب الحكومة بتعيين وزير مختص لملف الاقتصاد الاستهلاكي، يتابع ويراقب هذه الظاهرة، ويُعيد توجيه الاستثمارات نحو مشروعات صناعية وزراعية صغيرة ومتوسطة تُوفر فرص عمل حقيقية، وتُعزز الإنتاج، وتُضيف قيمة حقيقية للاقتصاد الوطني.

أعلم أن كلماتي قد تطول، لكن الغيرة على الوطن تدفعني للكتابة. وحتى نلتقي في مقالٍ قادم، أترك لكم هذه الكلمات دعوةً للتأمل والمراجعة.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

كل كلمه صحيحه جدا، ❤️