دكتور محمد الشافعي
في زمنٍ اختلطت فيه القيم وتبدّلت فيه الموازين، أضحى مشهد تصدّر غير الأكفاء للمناصب أمرًا معتادًا، حتى غدا الاستثناء هو أن تجد من يتبوأ موقعًا يليق بمؤهلاته وخبراته. لقد ابتُلينا بطغمةٍ من الناس لا يحملون من المؤهلات إلا الطموح الأجوف، ولا من المقومات إلا الصوت المرتفع والوجه المتجهم. يتقدمون الصفوف لا لأنهم الأجدر، بل لأنهم الأوقح، يعتلون المناصب لا بدافع خدمة الناس، بل بدافع الانتصار لذواتٍ متورمة بالغرور ومثقلة بالعُقد النفسية.
عندما يتولى هؤلاء أمرًا من أمور العمل، خصوصًا إن تعلق الأمر بإدارة أو رقابة أو إشراف، يتحول منصبهم إلى وسيلة لممارسة تسلّط بائس، وتفريغ شحنات من الحقد المترسب في نفوسهم. يظنون أن السلطة تُقاس بعدد الأوامر التي يطلقونها، وبعدد الأشخاص الذين أذلوهم أو حرموهم من حقوقهم. فينسجون قرارات لا منطق فيها، ويضعون القواعد لا لضبط العمل، بل لإثبات الهيمنة، متناسين أنهم جزء من المنظومة، لا أوصياء عليها.
أحدهم، حين أُسندت إليه مسؤولية إدارة كنترول، تحوّل فجأة إلى متحكم في مصائر الناس، يوزع الأوامر جزافًا، ويمنع هذا، ويقصي ذاك، ويصرّ على أن لا يستلم أوراقًا من أحد إلا إذا كانت بيد عضو هيئة تدريس، وكأن الآخرين لا مكانة لهم، متجاهلًا أن من يتعامل معهم زملاء في العمل، لا عابري سبيل، وأن السلطة لا تعني التسلط، بل تعني الأمانة والمسؤولية والعدل.
لماذا انتشر هذا الشك المَرَضي؟ لماذا صار الأصل هو سوء النية، والثقة هي الاستثناء؟ إن ما نراه من تعنت وغرابة في القرارات، وما يُكتب على أوراق العمل من عبارات لا تخلو من العدائية والشك، إنما يكشف عن عمق اضطراب نفسي يحتاج إلى معالجة لا إلى منصب.
حين يُدار العمل بهذه العقلية، تتحول بيئة الأداء إلى حقل ألغام، وتموت روح التعاون، ويُغتال الاحترام المتبادل بين الزملاء. ليس من مصلحة أحد أن يتوهّم أنه فوق الجميع، وأن الكرامة والاعتبار حكرٌ عليه دون سواه. فالجميع في النهاية شركاء في المسؤولية، وأمناء على مصلحة واحدة، وإن تباينت أدوارهم.
ولعلنا بحاجة إلى أن نعيد تعريف مفهوم السلطة في وعينا الجمعي، فنعيد إليها معناها الحقيقي: رعاية لا قهر، عدالة لا تعنت، حكمة لا مرض، وخدمة لا استعلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق