2025-03-02

الضوضاء… حين تصبح سلوكًا عامًّا

 



دكتور محمد الشافعي 

في زمنٍ باتت فيه الضوضاء سمةً لا تُفارق حياتنا، أصبح البحث عن الهدوء كالبحث عن واحةٍ في صحراء قاحلة. لم تعد الأصوات العالية مجرد خلفية عابرة، بل تحوّلت إلى طوفانٍ يقتحم الخصوصيات، ويُجهد الأعصاب، ويصادر حق الإنسان في الراحة.

لقد صار للصوت العالي أنصار ومريدون، وكأن الهدوء جريمة لا تُغتفر. تتغنى الألسن بمكبرات الصوت، ويكاد الناس يلتصقون لها من فرط افتتانهم بها، فلا شارع يخلو من الضجيج، ولا متجر يأنس بالصمت، ولا مقهى يترك لروّاده فرصة الاستمتاع بلحظة تأملٍ بلا صخب. حتى في البيوت، صار من المعتاد أن يتحدث المرء بصوتٍ يعلو حاجته، كأنما يوجه حديثه لمن يقف على الطرف الآخر من المدينة.

ثم تأتي المصيبة الأكبر فيما يُسمّى بالموسيقى التصويرية، وهي في حقيقتها موسيقى تعصيبية، تفرض على السامع مزاجًا معينًا لا خيار له فيه، تُسلِبُه حياده العاطفي، وتدفعه دفعًا إلى اتجاهٍ شعوري قد لا يرغب فيه. لم تعد الأعمال الدرامية تستقيم إلا بهذه الضوضاء المتواصلة، وكأن الصورة وحدها لا تكفي لنقل الحدث.

وسط هذا الإعصار الصوتي، لا يجد الباحث عن السكينة ملاذًا إلا في الانزواء، في ركنٍ هادئٍ بعيد، حيث يتسلل صوت القرآن الكريم بصوتٍ منخفض، ينفض عن القلب غبار التوتر، ويمسح عن الروح أذى الأصوات المتداخلة، وكأنه طوق نجاة وسط بحرٍ من الفوضى السمعية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: إلى متى؟ إلى متى نظل أسرى لهذه الهمجية الصوتية التي لا تراعي كبيرًا ولا صغيرًا؟ إلى متى يظل الصخب علامةً على الحضور، وكأن من لا يرفع صوته لا وجود له؟ إلى متى تظل الشوارع ساحاتٍ للضوضاء العشوائية، حيث يصول و يجول المراهقون بلا تهذيب، يصرخون ويعبثون بممتلكات الآخرين، وكأنهم وحدهم في هذا العالم؟ إلى متى سيظل صاحب المتجر يقتحم أذن المارّة بمذياعه العالي، وكأن الشارع ملكٌ له وحده؟

إنها ليست مجرد أصوات، بل ثقافةٌ مريضة، وسلوكٌ فوضوي يكشف خللًا عميقًا في تقديرنا لحقوق الآخرين. إن احترام الخصوصية لم يكن يومًا رفاهية، بل هو أساسٌ تقوم عليه المجتمعات المتحضرة. فكما أن للإنسان حقًّا في الكلام، فله أيضًا حقٌّ في الصمت، وكما له حقٌّ في سماع ما يحب، فله كذلك حقٌّ في ألا يُفرض عليه ما لا يحب.

إن الضوضاء ليست مجرد إزعاجٍ لحظي، بل هي اعتداءٌ صريح على الهدوء النفسي، واستنزافٌ مستمرٌّ للجهاز العصبي. وليس من المقبول أن نظل نُبرر هذه الفوضى بعبارات مستهلكة عن "طبيعة المجتمع"، أو "عفوية الناس"، أو "الحياة الصاخبة". فالتحضر ليس في المباني الشاهقة، ولا في التقنيات الحديثة، بل في أدب السلوك واحترام المساحات المشتركة.

لقد آن الأوان أن نتوقف عن اعتبار الضوضاء أمرًا طبيعيًّا، وأن ندرك أنها ليست سوى وجهٍ آخر للتخلف، وأن الصمت ليس ضعفًا، بل حضارة، وأن الهدوء ليس انطواءً، بل احترامٌ متبادل. فهل آن الأوان أن نستعيد إنسانيتنا المفقودة وسط هذا الضجي


ليست هناك تعليقات: