2025-03-03

رمضان بين قدسية الشهر وإهدار الأوقات

 


دكتور محمد الشافعي 

ما إن يهل هلال شهر رمضان المبارك حتى تنقلب الأجواء رأسًا على عقب، وكأننا أمام موسم لا تُرفع فيه الدرجات، ولا تُمحى فيه السيئات، بل سوق صاخب تُعرض فيه التفاهات بأبهى صورة، وتُحاصر فيه العقول بكمٍّ مهول من العبث، فلا يكاد الصائم يجد لحظة صفاء وسط هذا الضجيج المتعمد. كيف تحوّل الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس إلى موسم يُراد به تغييب الوعي وإغراق الناس في طوفان من المسلسلات الفارغة والإعلانات المزعجة التي لا تحمل أي معنى سوى استنزاف الوقت والمال؟

إنها مأساة متكررة، بل مؤامرة مدروسة، يُعدّ لها العدة قبل رمضان بأشهر، حيث تتبارى القنوات في حشد أكبر عدد من المسلسلات، ليس بحثًا عن الإبداع، بل لمجرد ملء الفراغ بسيناريوهات متشابهة، وقصص مستهلكة، وأدوار مكررة، حتى صار المشهد برمّته نسخة باهتة تتكرر كل عام دون أدنى تطوير أو تجديد. إن الفن الحقيقي ليس مجرد حكايات تُسرد، أو مشاهد تُعرض، بل هو إبداع يحمل رسالة ويترك أثرًا، لكن ما يُقدَّم اليوم في رمضان ليس سوى حالة من الفقر الإبداعي، والإصرار على تسطيح العقول، وكأن الهدف هو إلهاء الناس عن الجوهر الحقيقي لهذا الشهر الكريم.

ولأن المسلسلات وحدها لا تكفي، تأتي الإعلانات كالسياط التي تلهب أعصاب المشاهد، فلا يكاد يبدأ مشهد حتى يُقطّع بعشرات الفواصل الإعلانية التي تكرر نفسها بإلحاحٍ ممجوج، وكأن العقل البشري آلة بلا إحساس. مشاهد صاخبة، أصوات صارخة، استعراض فجّ للمال والترف، وكأن المجتمع كله قد تحوّل إلى حفلة استهلاكية لا تعرف معنى الزهد أو القناعة. هذا القصف الإعلاني المستمر لا يهدف إلى تسويق منتج بقدر ما يهدف إلى إغراق الناس في دوامة من الاستهلاك اللاواعي، حيث يصبح رمضان مجرد سوق ضخم تُعرض فيه البضائع والأوهام، بينما يضيع جوهر الشهر بين أكوام الفواصل التجارية.

إنها كارثة حقيقية أن يتحول رمضان، الذي تصفَّد فيه شياطين الجن، إلى موسم يتفنن فيه شياطين الإنس في إشغال الناس عن العبادة والتأمل والصفاء الروحي. لقد أصبح هذا الشهر العظيم رهينة بأيدي صُنّاع التسلية الرخيصة، وأرباب الإعلانات، الذين لا يرون فيه سوى موسم أرباح، لا موسم رحمة ومغفرة. كيف نقبل أن يُسرق منا رمضان عامًا بعد عام، ونحن نيام على أرائك التفاهة والابتذال؟ كيف نسمح بأن يُمحى من قلوبنا هذا الشعور النقي الذي كان يميز رمضان عن سائر الشهور؟

آن الأوان أن نستفيق من هذا العبث، أن نقف وقفة جادة مع أنفسنا، أن نعيد لهذا الشهر قدسيته، ونرفض أن يكون مسرحًا للضوضاء والإلهاء. إن رمضان ليس موسم استهلاك، بل موسم ارتقاء، ولن يكون له طعمه الحقيقي إلا إذا قررنا أن نستعيده من قبضة من اختطفوه وحوّلوه إلى مهرجان صاخب لا روح فيه ولا معنى.



ليست هناك تعليقات: