دكتور محمد الشافعي
في زمن تتبدّل فيه الموازين، وتغيب فيه المعايير، نجد أنفسنا أمام مشهد غريب، تتصدره الوجوه التي لا تحمل من القيمة إلا الواجهة، ولا تمتلك من المضمون إلا الضجيج. تتقدّم إلى الصدارة تلك الأسماء التي لو وزنّاها بالعقل والخبرة والخلق، لوجدناها خواءً، ولكنها تحصد التصفيق وتقتنص الأضواء، لا لأنها تستحق، بل لأن الزمان غضّ طرفه عن الكفاءات، وفتح ذراعيه للسطحيين.
تُدفع الطاقات الحقيقية إلى الزوايا، يُسدل عليها ستار التجاهل، وتُترك لتصحو كل صباح على جرح جديد من جحود المجتمع. ويُمنح الميكروفون لمن لا يملكون من الفكر إلا القشور، ومن اللغة إلا التهريج، ومن الطموح إلا التسلّق. في هذا العالم المقلوب، يُكرم الجاهل، ويُرفع الغبي، ويُغمر المعوق فكريًا بشهادة "التميّز"، بينما يئنّ صاحب العقل تحت وطأة التهميش.
ليس من الغريب أن يترقّى عديم الإمكانيات، ففي سوقٍ لم تعد السلعة فيه هي العقل، بل القدرة على التملّق والصراخ، يصبح الغباء عملة رائجة، ويصير الجهل زينة المرحلة. وهكذا، يُقصى من يملك الرؤية، ويُكافأ من يُجيد الضجيج، ويُحتفى بمن لا يضيف شيئًا سوى السُباب والإثارة.
إننا لا نعيش فقط أزمة قيم، بل أزمة ضمير جمعي. فالناس باتوا يلهثون خلف البريق، لا خلف المعنى؛ يبحثون عن من يُضحكهم لا من يُفيقهم؛ يتبعون من يُشبع رغباتهم اللحظية لا من يُوقظ عقولهم. والمجتمع، في سهوه، يزكّي هذه الصورة، فيتقدّم كل من لا يستحق، ويتأخر من يُضيء.
لكن التاريخ علمنا أن هذا الليل، مهما طال، لا يُطفئ شمس النقاء. وأن هذا الغبار، مهما علا، لا يُخفي الذهب الحقيقي طويلًا. فالعقول الأصيلة قد تصمت، لكنها لا تموت. والقلوب النظيفة قد تُظلم، لكنها لا تُطفأ. وسينقلب المشهد، كما ينقلب الليل إلى فجر، وستعود الأمور إلى نصابها، ولو بعد حين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق