حازم يونس**
البصر منحة ربانية لا تقدر بثمن॥ لكن من شاء القدر أن يحرمهم من هذه المنحة فإن لديهم منحةأخرى لا تقل أهمية॥ هي منحة اللمس؛ فمن خلالها يشاهدون الحياة॥ يتلمسون ملامحها॥ يتعرفون على تفاصيلها । والسؤال هنا كيف يمكن أن يستفيد الكفيف من هذه الحاسة حتى يتمكن من مشاهدة الحضارة المصرية وآثارها الخالدة؟. ربانية
- بداية الفكرة
هذا السؤال طالما دار بذهن الدكتورة وفاء الصديق -مديرة المتحف المصري السابقة- منذ زمن بعيد وقبل أن تتولى مسئولية المتحف॥ حيث كانت في زيارة لأحد المتاحف بألمانيا في أثناء إعدادها لرسالة الدكتوراة فتأثرت كثيرا عندما رأت أسرة ألمانية تزور متحفا، وكان كل أفراد الأسرة يستمتعون إلا شابا وقف بعيدا لا يشاركهم هذه المتعة لكونه كفيفا، وظل هذا المشهد عالقا في ذهنها، وأرقها كثيرا وأخذت على نفسها عهدا بأن تصنع لهؤلاء المكفوفين شيئا يمكنهم من الاستمتاع بالآثار، وبدأت تعرض الأمر بعد عودتها على مسئولي المتاحف الذين لم يبدوا أي حماس لها، حتى تولت هي أمر المتحف المصري فكانت تلك القضية على رأس أولوياتها।
- متعة ناقصة
أما عن كيفية تعرف الكفيف على الأثر فتقول الدكتورة وفاء: الفكرة الأساسية التي نعتمد عليها هي أنه إذا كانت حاسة الإبصار هي الصلة التي تربط بين الإنسان المبصر والعالم الخارجي فإن حاسة اللمس تقوم بنفس هذه الوظيفة عند الكفيف وباستخدامها يمكن أن يتصل بالآخرين، ولذلك اتجه التفكير إلى توظيف هذه الحاسة في التعرف على الآثار عن طريق عدة خطوات، منها محاضرة نظرية عن الموضوعات التي ستناقشها الدورة، ثم يتعرف الكفيف على الآثار المرتبطة بهذه الموضوعات باستخدام حاسة اللمس عن طريق مستنسخات أثرية تم إعدادها خصيصا لهذا الغرض.
وقد لاقت تلك الفكرة قبولا بين المكفوفين ولكن ظل هناك شيء في نفسي يؤرقني؛ إذ دائما ما كنت أسأل: ولماذا لا يتعرف الكفيف كغيره من المبصرين على الأثر الأصلي وليس على الأثر المستنسخ؟ ولماذا -أيضا- لا يقرأ شرحا لتلك الآثار بطريقة برايل التي يتقنها؟ إنه بذلك لا يحصل على متعة كاملة عند زيارة المتحف.
إلى المتعة الكاملة...وتكمل الدكتورة وفاء قائلة: "حاولت كثيرا أن أجيب على هذين السؤالين وكانت تقف أمامي عقبتان: الأولى أن إجابة السؤال الأول تعتمد على أن يسمح للكفيف بلمس الأثر الأصلي وقوانين المتاحف لا تجيز لأي زائر لمس الأثر. والثانية هل يمكن أن يوجد بالمتحف إمكانية الكتابة بطريقة برايل عن طريق وجود مطبعة خاصة بتلك الطريقة؟ وقلت لنفسي: سأحاول حل هاتين العقبتين، وإن لم أتمكن فيكفيني ما فعلته وإن كان يحقق لهم متعة ناقصة".
وبدأت بعرض فكرة السماح للمكفوفين بلمس الآثار على اعتبار أن عدد مَن سيزور منهم المتحف كل يوم سيكون ضئيلا، وبالتالي لن يؤثر ذلك على الأثر، وعلى عكس ما توقعت وجدت تجاوبا كبيرا من مسئولي المجلس الأعلى للآثار.. ولم تمر إلا فترة ضئيلة جدا ووجدت المشكلة الأخرى تحل -أيضا- دون مسعى مني فقد أهدت إحدى الجهات المعنية بقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة مطبعة برايل إلى المتحف عندما عرفت بما نفعله من أجل الكفيف.
- مرشد خاص
ظننت وقتها أن كل العقبات قد ذللت؛ فالكفيف سيدخل إلى المتحف يتلمس الأثر ويقرأ شرحه بطريقة برايل، ولكن يبدو أن توفيق الله الذي كان حليفي في هذا الموضوع قد شجعني على أن أفكر في أمر آخر، وهو: لماذا لا يكون للكفيف مرشد خاص به في أثناء جولته بالمتحف؟ وأخذت أفكر في ماهية هذا المرشد، هل يكون أحد المرشدين الذين نستعين بهم في شرح الآثار للمبصرين؟ أم يكون مرشدا كفيفا يتم تأهيله بشكل مكثف في الموضوعات المتعلقة بالآثار المصرية؟ واستشرت الكثيرين من المتعاملين مع تلك الفئة فأشاروا إلى أنه يفضل أن يكون من المكفوفين؛ لأن الكفيف أقدر من غيره على معرفة عقبات التعلم عند أقرانه ومن ثم سيكون أقدر على توصيل المعلومة.
اقتنعت بذلك وبدأت أطالب أن يكون من بين المعينين بالمتحف مكفوفون يتم تأهيلهم لهذا الغرض، وبالفعل نجحنا في ذلك وأصبح بالمتحف اثنان من المرشدين الذين يتعاملون مع الكفيف، وبالتالي أصبح الكفيف يدخل المتحف ليجد المرشد الذي يصحبه في جولة بين الآثار التي يسمح له بلمسها للتعرف على تفاصيلها وقراءة شرح لها ببطاقة مكتوبة بطريقة برايل توجد أسفل الأثر.
- تقليد الأثر.. كرحلة أخرى
إلى هنا، بدأ ضميري يستريح وأحسست أني وفقت في تنفيذ العهد الذي قطعته على نفسي، ولكن فوجئت ذات يوم بالمرشدين الذين يتعاملون مع الكفيف يطلبون مقابلتي ليعرضوا عليَّ أمرا مهما.. وهو أن يكون لهم قسم خاص في المدرسة الملحقة بالمتحف.. وهذه المدرسة تم إنشاؤها منذ عامين حيث يقوم الطفل داخلها بإعداد مستنسخات للآثار التي شاهدها باستخدام بعض الخامات البيئية كالطين الأسواني.
وقد تعجبت في البداية من طلبهم لأني اعتبرته أمرا يتعدى حدود الصعوبة ليصبح مستحيلا وقد شعروا بهذه الدهشة، فردوا ردا منطقيا حيث قالوا لي: إذا تمكنا نحن من تحقيق ذلك فيمكن لأي كفيف أن يحققه، فجربي معنا ولن تخسري شيئا.. اقتنعت بردهم وطلبت منهم أن يبدءوا على الفور فنجحوا في إبداع مستنسخات أثرية تقترب في دقتها مما يصنعه المبصرون؛ وهو ما شجعني على إدخال هذا النشاط إلى مدرسة المتحف ليحصل بذلك الكفيف على متعة أثرية كالتي يحصل عليها المبصر، ولكن الفارق بينهما أن لكل منهما أداته في تحقيق تلك المتعة، فإذا كانت حاسة البصر هي وسيلة المبصر لذلك، فإن حاسة اللمس هي وسيلة الكفيف.
- مع المكفوفين
انتهى كلام الدكتورة وفاء عند هذا الحد، ولا أخفيكم سرا أني شعرت ببعض المبالغة في حديثها فرأيت ضرورة أن أتأكد من صحته بنفسي.. ودعتها على أني سأغادر المتحف ولكني دخلت إلى قاعاته لألمس عن قرب هذا النشاط.. ووجدت مجموعة من المكفوفين، ومعهم المرشد فسألت أحدهم عن القاعة التي يتواجد بها.. فأجاب بأنها القاعة الخاصة بالملك إخناتون، وبدأ يردد بعض المعلومات عن إخناتون وزوجته نفرتيتي، وعندما سألته عن مصدر تلك المعلومات أخذ بيدي لأتحسس معه البطاقة الخاصة بالأثر المكتوبة بطريقة برايل التي توجد أسفله...
ثم دعاني أن اصطحبهم بعد الجولة إلى المدرسة الخاصة بالمتحف لأشاهدهم وهم يصنعون مستنسخات أثرية لبعض الآثار التي تعرفوا عليها خلال الجولة॥ ذهبت معهم وأنا تتملكني الدهشة التي تملكت مديرة المتحف عندما عرض عليها هذا الأمر، ولكن ما أن دخلت إلى القسم الخاص بهم حتى شاهدت تمثالا أبدعه أحد المكفوفين للكاتب المصري؛ وهو ما دعاني على الفور إلى التسليم بكل ما جاء في حديث الدكتورة وفاء، وغادرت المكان وأنا أقول: سبحان الله الذي منح لهؤلاء تلك الحاسة التي يتواصلون بها مع العالم الخارجي، وفوق كل ذلك منحهم إرادة قوية وعزيمة شديدة لتذليل كل الصعاب।ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** صحفي مصري.
http://www.islamonline.net/arabic/arts/heritage/2006/05/05.shtml
2010-02-10
المكفوفون يشاهدون الآثار باللمس
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق