المتروبوليتان:
بعد ما اتعرضنا تاريخ اشاء المتحف وبعض معروضاته ينبغي لنا أن نقول أن متحف المتروبوليتان ليس متحفا بقدر ما هو "موسوعة حية" لكل تاريخ الفن في العالم. فمن النادر أن تلتقي كل الشواهد الحضارية تحت سقف واحد، ومن المدهش أن يضم المتحف كل هذه الأشياء البالغة القدم في مدينة بالغة الحداثة.
تدير السيدة حاملة الشعلة ظهرها لمدينة "نيويورك" ناظرة للمحيط العميق والجزر الصغيرة المتناثرة. وتحت قدميها أبيات من الشعر محفورة على لوحة من النحاس ترحب بالغرباء والمعذبين في الأرض. ربما لأنهم سيجدون في شوارعها عذابا من نوع آخر. الكثيرون غير السيدة "حرية" أداروا ظهورهم لمدينة "نيويورك " ليبحثوا عن الحلم الأمريكي في مدن أخرى. ولكنها تبقى وبرغم كل شيء رمزا لهذا الحلم. تلك المدينة العملاقة التي تربض فوق جزيرة نهرية اشتراها البيض من الهنود ببضعة عقود من الخرز. لم يكن الهنود بهذه السذاجة ولكنهم كانوا مرغمين على إتمام هذه الصفقة. وحتى الآن مازالت مثل هذه الصفقات المريبة تسري في عروق المدينة السرية حيث يوجد دائهـا مغبون وغابن. إنها ليست أقوى المدن فقط، وليست أكثرها عنفا وارتفاعا في معدلات الجريمة، ولكنها الشاهد الوحيد على حضارة العصر الحديث، فهي مدينة بلا سماء تقريبا، والرقعة الضيقة التي تظهر بين رءوس ناطحات السحب تبدو باهتة وبعيدة وغير حقيقية، كأنها قد صنعت وجودها المادي الخاص دون حاجة لمؤثرات الطبيعة، إن حوالي 500 عام من عمر المدينة هي فترة قاحلة من تاريخ البشرية لم تشهد فيها دينا جديدا، ولم تشيد معابد مختلفة، ولم تضخ في عروق الإنسان روح متدفقة تحمل بعثا جديدا لخلاياه القديمة على حد تعبير الكاتب الفرنسي أندريه مالرو. ونيويورك تمثل هذا التاريخ الحديث، حيث لا توجد أضرحة للملوك القدامى، ولا معابد للآلهة المقدسين ولا أكاليل غار للفرسان المنتصرين. ملوكها المحدثون من نوع مختلف، ملوك للصلب، وملوك للصابون، وملوك لألبسة النساء الداخلية، للسيارات ولمواد التجميل ولمزيلات روائح العرق، عروشهم في الأدوار العلوية لناطحات السحاب، أما فرسانها الحقيقيون فإن البورصة هي ساحة المعارك التي يخوضونها والسندات المالية هي السيوف التي يشهرونها، معارك شرسة تومض في أرقام دقيقة على شاشات أجهزة "الكمبيوتر" حيث لا عزاء للخاسر. وكما تصلح ناطحات السحاب عروشا فهي تصلح أيضا مهاوي للمنتحرين، ويبقى مكان ضئيل للآلهة في ذلك المبنى الذي يضم متحف "المتروبوليتان " على أطراف حديقة " السنترال بارك".
آلهة للجمال والفن
إن آلهة الفن والجمال تسكن هادئة وسط جلال تلك الأروقة، قطعا من روح الحضارات القديمة، كتب الزمن عليها حروفا كالتجاعيد فأكسبها ذلك نوعا من البهاء والحكمة. آلهة تحت طائلة البصر بلا صوت ولا حركة ولكنها قادرة على إفعام النفس بالتسامي والبهجة الغامضة. ثلاثة ملايين قطعة تختلف في الحجم ولكنها لا تختلف في المكونات الجمالية، بداية من المعبدالفرعوني الضخم الذي كتب غريق ممري اسمه على جدرانه قبل أن تبتلعه مياه النيل، إلى خاتم صغير قادم من عصر النهضة كانت "لوكريشيا بورجيا" تخفي فيه السم لعشاقها. تاريخ طويل من الجلال والنزق الإنساني، من رماح الصيد والأقنعة الإفريقية إلى سيوف سلاطين آل عثمان المقوسة والمطعمة بالدر والزبرجد تجمعت أطرافه في هذا المكان، ربما لأنه لا توجد مدينة في العالم كانت في حاجة لمثل هذه الذاكرة الممتدة مثل "نيويورك ". وهي لم تكتف بعرض ملامح هذا التاريخ بل حاولت أن تنقله من مكانه لعلها تجعله ينتمي إليها، تماما مثلما فعلت بأفواج المهاجرين إلى أرصفتها. فبالإضافة إلى المعبدالفرعوني الضخم الذي أنشأ المتحف قاعة جديدة خصيصا من أجله وهو يعتبر قطعة واحدة من بين 400 قطعة مصرية قديمة يمتلكها المتحف، تنتصب أسود بابل المجنحة، تبتعد عنها قليلا كنيسة قوطية جاءت من إسبانيا العصور الوسطى، ومحراب مطعم بالفسيفساء من إيران، وقاعة إسلامية الطراز مليئة بالطنافس كان يملكها تاجر دمشقي يدعى "نور الدين"، وحديقة يابانية تبدو كأنها انتقلت في التو بكل ما على أغصانها من طيور، وجناح كامل من أحد القصور الفرنسية قبل أن يغدر رعاع باريس بملوكهم الشموس بما فيه من أثاث فاخر وستائر سميكة وجدران مزينة بلوحات "الجوبلان" أيقونات للعذراء ومخطوطات نادرة للقرآن الكريم، دروع محاربي الملك "آرثر" وسيوف الفرسان الثلاثة، وأولى ماكينات الطباعة والآلات الموسيقية، وعدد هائل من اللوحات تحمل كل جنوح الفنانين وعذاباتهم حتى الصور الفوتوغرافية كان لها نصيب وافر في حيز هذا المتحف، إنه أشبه بموسوعة لكل أشكال الفنون في مختلف الحضارات، موسوعة مادية ومجسدة. إن كل ثقافة ممثلة من كل مكان في العالم، من طيبة إلى فلورانسا إلى بابوا في غينيا الجديدة. كل هذا على مساحة قدرها 1,4 مليون قدم مربع ومتحف "المتروبوليتان" بهذا الاتساع يعتبر مجمعا للمجموعات لأن كل جزء من أجزائه يمكن أن يعتبر متحفا قائما بذاته.
المولد.. في حفلة عشاء
بدأت حكاية هذا المتحف الضخم في حفل عشاء عندما اجتمعت مجموعة من الأمريكيين في أحد مطاعم "باريس" للاحتفال بذكرى عيد الاستقلال في الرابع من يوليو. ونهض "جون جاي" ليلقي كلمة ما بعد العشاء. كان واحدا من الشخصيات العامة وحفيد أسرة عريقة من رجال الدين والقضاء، وكان في خياله وهو يتحدث نوع من الغيرة القومية من متحف اللوفر الذي تملكه فرنسا ولا تملك أمريكا بكل ثرائها واحدا مثله، وطرح الدعوة لإنشاء "متحف وطني ومعرض فني " يضم كل التراث الأمريكي قبل وصول الرجل ا لأبيض، وكذلك الفن المعاصر. وقد قوبلت هذه الدعوة بحماس بالغ، وفي العام التالي عقد في مدينة "نيويورك" أول اجتماع من أجل الإعداد لهذا الغرض، وقد ضم تحت رئاسة "جاي" نفسه الموظفين المدنيين ورجال الأعمال ومحبي الفنون وجامعي التحف الفنية وكل المتخصصين في المتاحف.
بدأ العمل في إنشاء المتحف في 13 إبريل عام 1970، ولم ينتظر حتى يقام المبنى الحالي فبدأ نشاطه في مبنى مؤقت في الشارع الخامس، ولم ينتقل إلى السنترال بارك إلا بعد عامين، وقد اشترك في تصميم أجنحته عدد كبير من المعماريين الأمريكيين على مدى عقود من السنوات وشهد تطورا كبيرا من خلال المنح والهبات التي آلت إليه من كبار رجال الأعمال وهواة جمع التحف الفنية. والذي يسير في أرجاء المتحف يدهش من الأسماء الكثيرة التي منحته كل ما أنفقت عمرها وثروتها على جمعه من تحف فنية.
فراعنة في نيويورك
من أين يمكن أن تبدأ رحلتنا داخل أجنحة المتحف إلا من القسم الذي يضم الآثار المصرية القديمة؟ ليس هذا وليد شعور عاطفي فقط، ولكن لأن هذا القسم بالفعل يمثل نقطة جذب لكل الرواد. وفي الوقت الذي تسبح فيه بقية الأقسام الأخرى في الهدوء لا تجد متسعا لقدم في هذا القسم. إن من الصعب تصور كيف جرى تهريب آثار بهذا الحجم وهذه الضخامة خارج بلادها الأصلية. تلك التماثيل البازلتية الضخمة والرءوس التي تزن عشرات الأطنان والأعمدة السامقة واللوحات الجدرانية التي تم نشرها على مسافة أمتار. هذا غير المئات من القطع الفنية الصغيرة والتي لا تقدر بثمن. كيف تمت سرقة كل هذه الأحجام الضخمة وتهريبها خارج مصر؟! وكم عدد الذين حملوها من الصعيد الجواني حتى سواحل المالح، حيث غادرت هذه القطع النادرة بلادها إلى الأبد؟! نهب منظم لم يتوقف حتى ألان وسلطات غافلة أ تفق حتى الآن أيضا. لقد أصابني الفزع حين شاهدت مجموعة أخرى مثل هذه في متحف "اللوفر" وارتفعت درجة فزعي في المتحف البريطاني ـ كان المبرر الذي حاولت به إقناع نفسي أن هاتين الدولتين قد احتلتا مصر واستباحتا أهلها فما بالك بآثارها. ولكن المبرر الوحيد الذي كان يطرحه في متحف المتروبوليتان هو سحر الدولار الذي هو أشد مضاء واستمرارا من قوة الاحتلال ـ من التابوت الرائع والمزين الرسوم الذي كان يرقد فيه "خانو من خت" حيث ترفع الإلهة إيزيس ذراعيها في توسل، إلى تمثال "الأباستر" الذي يمثل الملكة حتشبسوت وهي جالسة مشرئبة كأنها تستعد لتلقي ضربة أخيها، الذي تولى العرش وبعدها انتقم من كل آثارها، إلى رأس الجميلة "نومي " ابنة أشهر أطباء مصر القديمة، إلى تمثال البازلت الذي يجسد قطا أسود متحفزا، كان هذا القط يمثل إله شمال الدلتا وقد وصف المؤرخ اليوناني "هيرودوت " الاحتفالات التي كانت تقام كل عام والمعبدالجميل الذي كان يعبدفيه. ولكن لا شيء يضاهي ذلك المعبدالذي يحتل وحده قاعة كاملة من قاعات المتحف. ربما كان هذا المعبدهو القطعة الوحيدة التي انتقلت بطريقة شبه شرعية. فقد أهداها الرئيس السادات إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بمناسبة زيارته الشهيرة إلى مصر في عام 1974. ويمكن القول هنا أيضا إن من لا يملك قد أعطى معبدا لمن لا يستحق. إن معبد"دندر" الصغير الجميل كان مقاما على أرض النوبة التي كان من المقرر أن تغمرها مياه السد العالي، لقد أمر بتشييد المعبدالإمبراطور الروماني "أوجستين " تقربا من الإلهة "إيزيس ". وقد حاول المتحف أن يعيد تجسيد البيئة الطبيعية فأحاطه بالمياه وأشجار النخيل كأنه مازال يقف على حافة النيل. إن عمر الحضارة المصرية موغل في عمق الزمن فمنذ حوالي ثلاثة آلاف عام وحد الملك "مينا" جنوب مصر وشمالها ونهضت عاصمتها القوية في "ممفيس " في شمال البلاد، وفي حقبة الدولة القديمة بنيت الأهرامات وأخذ الفن المصري سمته الأساسية، ذلك الشموخ في الأشكال الثابتة واتجاه الرأس الذي يخالف اتجاه الجسد. إن مفهوم المصري القديم عن الزمن والفراغ أ يتغير إلا قليلا على مدى ثلاثة آلاف عام وبالتالي أ تتغير السمات الفنية إلا قليلا أيضا.
نفحة من حضارة الزيتون
ولا يقتصر وجود الحضارات القديمة على الحضارة المصرية فقط، ولكن الوجود الآسيوي يبدو كثيفا أيضا فهو يغطي مساحة واسعة تمتد من إيران حتى الجزر اليابانية. إن الملامح الأساسية للحضارة الغربية توجد وسط تضاريس الشرق الأدنى عندما تجمعت قرى الصيد الصغيرة لتكون أولى المدن. والآثار الموجودة في المتحف تمثل المنطقة الجغرافية التي بدأت فيها أولى سمات المدنية. فهي تمتد من جنوب تركيا حتى وديان نهر الهندوس. ومن أعالي جبال القوقاز إلى خليج عدن جنوبا، من هذه المناطق الشاسعة تجمعت قطع فنية يعود عمرها إلى العصر "النيوليثك" أو العصر الجليدي الجديد في المليون السابع قبل الميلاد حتى عصر بزوغ السلام وانتشاره في كل هذه المناطق في القرن السابع بعد الميلاد. الحضارتان اليونانية والرومانية لهما أيضا وجود حافل داخل المتحف. فهو يضم مجموعة من المقتنيات تضم نماذج من الفن الكلاسيكي في أرقى صوره. ولقد عرف هذا النوع من الفن قبل أن ينتشر اسم اليونانيين الذين استقروا في هذه الأرض المعروفة باسمهم. فقد وجد الكثير من هذه الآثار في جزيرة صقلية وفي كريت وقبرص وفي وسط اليونان. من كل هذه الأماكن اكتشفت تماثيل من الطين والرخام وهي المواد المفضلة لصنع الأشكال البشرية والتحكم في مقاييسها.
لقد بلغت الحضارة "المسينية" - نسبة إلى وسط اليونان - ذروتها خلال القرنين الثالث والرابع عشر قبل الميلاد. وقد تجلى ذلك في المصنوعات اليدوية التي تخص الحرب والمحاربين. ولكن نجم هذه الحضارة سرعان ما أفل وتناثرت مؤثراتها الثقافية على مساحة واسعة، ولم تشهد بعثا إلا بعد ذلك بحوالي ألف عام في أرض اليونان الرئيسية وخاصة في أثينا التي برع فنانوها في استخدام الأبعاد الرياضية في تزيين المعابد وصنع التماثيل.
لقد بدأ قسم الآثار اليونانية والرومانية في المتحف بداية متواضعة في عام 1909 عندما أهدي إليه تابوت حجري روماني. ولكنه واصل التطور حتى أصبح الآن يحتوي على تماثيل قبرصية ومزهريات يونانية عليها رسوم أسطورية، وتماثيل نصفية رومانية، بالإضافة إلى اللوحات الجدارية الملونة.
جنون الفن وعظمته. شخبطات من اللون والحلم والرغبة. كلها اجتمعت تحت السقف في مكان واحد، من النادر أن ترى كل هذه الروائع معا. ولكن لعل أروع ما يحتويه هذا المتحف هو مجموعة التأثيريين التي بدأت كاتجاه وكحلم وكضربة عفوية من ضربات الفرشاة.
في عام 1874 تم رفض عرض لوحات مجموعة من الفنانين الفرنسيين في صالون باريس السنوي الذي كان يدشن الفن الرسمي للمؤسسة الفرنسية. وقد اجتمع هؤلاء المرفوضون في استديو أحدهم هو المصور "نادر" وكانت هذه المجموعة تتكون من بيسارو ورينوار وسيزان ومونيه ومن هذا الاجتماع برزت مدرسة التأثيرية في الرسم وهو الاتجاه الذي كان له تأثير بالغ الأهمية في الفن المعاصر. أ يكن ثورة أو قطيعة مع الأسلوب التقليدي القديم أو الأسلوب الأكاديمي في التلوين. ولكنه كان محاولة للإمساك بالزمن الحالي وبدلا من محاولة رسم زمن ماض أو مكان منعزل حاولوا الإمساك بتلابيب الحياة اليومية. لقد تحولت الطبيعة إلى إحساس داخلي بهذه الطبيعة تعكس مدى ما تحدثه في النفس من تأثير مع ضربات سريعة من الفرشاة تحاول أن تحاكي الطريقة التي ينعكس بها الضوء على شبكية العين. ولقد قادت هذه الثورة على التقليدية إلى طريقة جديدة للرسم. وكما قلنا قبلا فإن مجموعة الفن التأثيري من مقتنيات متحف المتروبوليتان هي الأفضل والأكمل في العالم بدءا من بدايات الثورة على الكلاسيكية في أعمال مانيه وديجا إلى شكلها البالغ التأثر في أعمال بيسارو وسيزان الذي حاول أن يعيد للرسم الثقل والصلابة التي أهملها زملاؤه.
اخرج إلى بوابات المتحف واجلس على الدرج الحجري وسط عشرات الشباب والتقط أنفاسك وسوف تكتشف أنك في حاجة للعودة من جديد، وأن زيارة واحدة لا تكفي. إنك في حاجة إلى عدة أيام حتى يمكن أن تكتشف آلاف التفاصيل وتقرأ سطور التاريخ والحضارة وقد تحولت إلى نبضات حية. إنه التاريخ الإنساني الموغل في القدم يقف في مواجهة تاريخ المدنية الشديد الحداثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق