2025-09-12

تحتمس الثالث

 

تمثال تحتموس الثالث بمتحف الأقصر 

زمن الكلام

 


بقلم د. محمد الشافعي

كأننا نعيش في متاهة من الحروف، متاهة اسمها "الكلام". حياتنا كلها كلمات، من أول تنهيدة نولد بها إلى آخر همسة نغادر بها الحياة. كل شيء يدور في فلك اللغة، في طيف القول، حتى ما نظنه أفعالًا، إن تأملنا قليلاً، سنجده قد بدأ بكلمة، أو خُتم بها، أو ارتدى ثوبها في لحظة ما.

شغلنا، علمنا، تفكيرنا، وحتى ما نسميه "إنتاجًا معرفيًا"، ليس إلا رصفًا متقنًا للكلام، ممهورًا بمراجع وهوامش، ومغلفًا بغلاف يحمل عنوانًا جذابًا. نكدّ ونتعب ونصوغ ونراجع، وفي النهاية، يولد "بحث" لا يتحرك إلا بقراءة، ولا يعبُر إلا إذا سُمِع أو قُرِئ، وكأن العلم نفسه لم يُخلق إلا ليُقال.

تواصلنا اليومي في البيت، في العمل، في الشارع، في كل موضع من مواضع الحياة، لا يحدث إلا بالكلام. نحب بالكلام، ونكره به. نُطَمئِن ونُوجِع، نرسم الأمل وننثر اليأس، نكسر ونُجبِر، كل ذلك بكلمة. أحيانًا ترفعنا عبارة قصيرة إلى سابع سماء، وأحيانًا تهوي بنا جملة واحدة إلى قاع الوجع. الكلمة أصبحت سلاحًا يشق طريقه في كل اتجاه، ناعمة كسكينة المديح، جارحة كحد السخرية.

أغانينا التي نحفظها عن ظهر قلب، وأفلامنا التي نبكي ونضحك معها، وسيناريوهات الحياة المصطنعة، كلها كلمات. كلمات مرتبة، مصقولة، تُلقى على مسامعنا فتؤثر فينا كما لو كانت حقيقة نعيشها. نحن في مجتمعات باتت تعيش على الكلام، تُدمنه، تتغذى عليه أكثر من الخبز والماء. والكارثة أن الأفعال بدأت تتضاءل، تتوارى، تتحول إلى ظل باهت لما تقوله الألسن.

صرنا نقيس الناس بما يقولون لا بما يفعلون. نعطي الثقة لمن يحسن الحديث، ونُقصي من يلتزم الصمت. نُبهر بالمُحاضر البليغ ونغفل عن الصانع الصامت. الكلمة أصبحت هي الفعل، أو هكذا أوهمنا أنفسنا، رغم أن الحقيقة تقول إن الأفعال وحدها هي ما يغيّر العالم.

إن هذا الطوفان اللغوي الذي نغرق فيه يجعلنا ننسى أن الصدق ليس في البيان، بل في الموقف. وأن المعنى ليس في اللفظ، بل في النية. وأن الحياة ليست رواية تُحكى، بل تجربة تُعاش.

ومع ذلك، لا نكف عن الكلام. كأننا نحتمي به، نُسكِّن به قلقنا، نُجمّل به العدم، ونملأ به فراغًا عجزنا عن مواجهته. نحن قوم عشقوا القول حتى أدمَوه.

وما يزال الصمت، رغم كل شيء، أبلغ.