بقلم دكتور محمد الشافعي
في زمنٍ باتت فيه الصورة هي الحاكمَ الأوحد على وجدان المشاهد، تسلّلت الموسيقى التصويرية إلى قلب الأعمال الفنية والدرامية، لا كخادمٍ أمينٍ للمعنى، بل كمتطفّلٍ صاخبٍ يقتحم خلوتنا مع الكلمة والمشهد، حتى غدت كظلٍّ ثقيلٍ لا يفارق اللحظة، ولا يترك لها أن تتنفس من غير نغمةٍ متوترة، أو إيقاعٍ خافتٍ باكٍ، أو جلبةٍ نافرةٍ تئنّ في الخلفية بلا هوادة.
ما الذي يدفع صانع العمل إلى هذه الوفرة الموسيقية العنيفة؟ أهو افتقارٌ إلى الثقة في قوة الحوار؟ أم هو عجزٌ عن صياغة لحظة درامية تشق طريقها إلى القلب من غير عصا الإيقاع تُلوّح في خلفية الصورة؟ إن المتأمّل لَيعجب كيف يُراد للموسيقى أن ترافق كل همسة، وأن تشرح كل نظرة، وأن تفسّر كل صمتٍ بترجمةٍ صوتيةٍ متكلفة، وكأن الإنسان لم يُمنح فطرة الإحساس ليشعر من تلقاء ذاته، دون وصايةٍ من مقامٍ موسيقي أو خلفيةٍ تهتف له: الآن يجب أن تحزن، أو ها هنا ينبغي أن تبكي.
إن ما يُؤلم حقًا أن الموسيقى لم تعد أداة فنية خادمة، بل أضحت سيدةً مستبدة، تصرخ بأوتارها في أذن المشاهد، وتزاحم الأداء والموقف، حتى يكاد الصوت التمثيلي يُبتلع تحت وطأة النغم، وتضيع الكلمة التي كان يُفترض أن تكون الركيزة. وما يزيد الطين بِلّة أن هذا النمط أصبح سائغًا لدى كثيرٍ من صنّاع الدراما، حتى غدت الخلفية الموسيقية عادةً لا يُسأل عنها، ولا يُراجع حضورها، بل تندسّ تلقائيًا كما يُنسج الديكور، لا كحالة شعورية تُبنى بذكاء، بل كإملاءٍ ساذجٍ على ذوق المشاهد.
ويُقال إننا اقتبسنا ذلك من السينما العالمية، وهنا تكمن المفارقة؛ فهناك، في تلك المدارس، الموسيقى تُستحضر بمقدار، تُمنح المساحة حين تُجدي، وتُسحب حين يعلو صوت الدراما بذاتها. هناك تُصاغ النغمة بحسٍّ فنيٍّ رفيع، فتكون جزءًا من السرد لا غطاءً له، وهناك يعرف المخرج أن الصمت أحيانًا أبلغ من ألف مقام.
أما في درامانا، فباتت الموسيقى لازمةً تتدخّل في كل تفصيلة، بل وتغتال أحيانًا صدق اللحظة. تُحاصرنا الموسيقى الحزينة في كل عمل، وكأن الحزن هو اللغة الوحيدة التي تليق بنا، وكأن درامانا لا تكتمل إلا بأن تُغلف بالاكتئاب الصوتي المتكرر، فتخرج الأعمال وقد استحالت إلى صدى طويلٍ لنغمةٍ واحدة، تعزفها الأوركسترا ذاتها، وإن تنوّعت القصص وتبدّلت الوجوه.
أما أنا، فكم أتوق إلى مشهدٍ خالٍ من هذا الافتعال، إلى لحظة درامية يتكلّم فيها الصمت، أو ترتجف فيها الكلمة وحدها من فرط صدقها، لا من وقع آلة وترية تنحب في الخلفية. كم أفرح حين أجد عملاً يمنح المتلقي الثقة بأن يحسّ من تلقاء نفسه، من غير موسيقى تملي عليه الإحساس، ولا نغمة تضعه في قفص شعوري لا فكاك منه.
إنني لا أدّعي أن الموسيقى التصويرية في ذاتها عيبٌ أو نقمة، ولكن حين يُساء استخدامها، تصبح كالزينة المفرطة على وجهٍ جميل، تطمس ملامحه بدل أن تُظهرها. ويبقى الأمل أن نبلغ يومًا يسترد فيه المشهد سلطته، وتُعطى الكلمة حقها في أن تُسمَع دون غبارٍ من نغم، وأن تُترك للمشاهد فسحة الشعور الحر، لا أن يُحاصر بسيمفونية لا تهدأ، ولا ترحم.
تلك أمنيتي البسيطة، وذلك رجائي الصادق؛ أن نحيا لحظة درامية صافية، لا يعلو فيها سوى صوت الحقيقة.