2025-03-03

الممثلون .. طائفة غير مقبزلة

  


دكتور محمد الشافعي 

لم أكن يومًا من أولئك الذين يتهافتون خلف بريق الشهرة، ولا من الذين يُفتنون بملامح زائفة وأقنعة متقنة التصنّع. إنني، وبكل ما أوتيت من قناعة، أجد نفسي نافِرًا من طائفة الممثلين، طائفةٌ تثير في داخلي نفورًا لا حد له، وتملأ روحي باشمئزاز لا يبرأ.

ما إن تقع عيني على أحدهم، حتى أشعر وكأنني أواجه لوحة مزيّفة، ألوانها صاخبة، لكن لا روح فيها. أيُّ صدقٍ ذاك الذي يدّعون؟ وأي مشاعرٍ تلك التي يتقمّصون؟ إنهم ممتهنو التلوّن، خبراء الزيف، سادة الأقنعة المتعددة، يغيّرون وجوههم كما تُغيّر الحرباء لونها، لا لأجل البقاء، بل لأجل الكذب والخداع.

لقد قيل إن التمثيل فنٌّ راقٍ، ولكن أي رُقيٍّ هذا الذي يقتات على الخداع؟ أي عظمةٍ في أن يُجيد المرء الكذب إلى حد الإتقان؟ يظنّون أنهم سحرة العواطف، وأنهم قادرون على استلاب مشاعرنا، لكن هيهات! قلوبهم خواء، وأرواحهم أشبه بتماثيل جوفاء، تدبّ فيها الحياة حين تضاء أضواء المسرح، وتعود إلى سباتها حين تُطفأ الكاميرات.

لا أنكر أن بعضهم قد يمتلك موهبةً في الإقناع، لكنه إقناعٌ مسموم، كزهرٍ مخضوضرٍ جذّاب يخفي خلفه سمًّا زعافًا. إنهم يعيدون تمثيل الحياة، ولكن بنسخة مشوهة، حيث تختلط الحقيقة بالوهم، والصادق بالكاذب، حتى ليصبح المرء عاجزًا عن التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زيفٌ محض.

كم أشمئز حين أراهم يتفاخرون بأدوارهم، يصدّقون الكذب الذي صنعوه بأنفسهم، يتقمّصون حياةً ليست لهم، ويعيشون بين الناس وكأنهم آلهة تُعبد، بينما هم لا يعدون كونهم صورًا متحركة، لا جذور لهم ولا ثبات. إنهم كظلال المساء، تمتدّ أمام الناظرين، لكنها سرعان ما تتلاشى عند أول خيطٍ من النور الحقيقي.

أرى في الممثلين قلوبًا لم تعتد الصدق، ونفوسًا تقتات على التصفيق، فإن خلا المكان من الأضواء، انطفأت أرواحهم، لأنهم ببساطة لا يعرفون كيف يعيشون دون أن يُشاهدهم أحد.

كل ذلك على الرغم من أنني مارست التمثيل خلال دراستي الجامعية، بل والتحقت سابقًا بالمعهد المتخصص فيه، إلا أنني لم أستمر لأسباب أخرى لا علاقة لها بالموقف الذي أعبّر عنه اليوم. فوجهة نظري الحالية وموقفي من التمثيل لم يتبلورا في وجداني إلا خلال السنوات القليلة الماضية.

وأكرر هنا ما ذكرته في مقال سابق، وهو أن الفن الحقيقي لم يعد متوفرًا في عصرنا هذا على أي مستوى. فما يُقدَّم اليوم لا يتجاوز كونه كلماتٍ محفوظة، يرددها الممثلون بلا إحساس أو فهم حقيقي لمعانيها. إنه مجرد استعراضٍ مفتعل، يُراد به استجلاب الضحك، رغم أنه في جوهره ليس كذلك، أو مهزلة تفتقر إلى القيمة، حيث يعتمد الممثلون على الابتذال والأسلوب السوقي في التعبير، في محاولة يائسة لجذب الانتباه.

قلّما نجد في الساحة الفنية اليوم من يقترب، ولو قليلًا، من قاماتٍ عظيمة مثل يوسف وهبي، وشكري سرحان، وزكي رستم، وشادية وسناء،جميل، وغيرهم ممن قدّموا فنًّا حقيقيًّا نابعًا من رؤية صادقة وموهبة أصيلة. لقد كانوا فنانين بحق، لم يكن هدفهم مجرد الظهور أو تحقيق الشهرة، بل كانوا يعبرون عن معانٍ عميقة، ويُجسّدون أدوارهم بصدقٍ وإبداع. أما اليوم، فلم يبقَ إلا قلة نادرة تستحق أن تُسمّى فنانة، في حين غرق البقية في بحر من الادعاء والسطحية.

واخيرا لا أبالغ إن قلت إنني لا أطيق رؤيتهم، بل إن مجرد التفكير فيهم يملأني نفورًا. إنهم يمثلون كل شيءٍ زائفٍ في هذا العالم، وكلما ازداد إعجاب الناس بهم، زاد يقيني بأن الزيف أصبح معيارًا، وأن الحقيقة أضحت غريبة بين البشر.

فلينعموا بعالمهم المزيّف، وليظلوا سجناء أقنعتهم، أما أنا، فسأبقى في عالمي، أبحث عن الصدق، بعيدًا عن وجوههم التي لا أرى فيها إلا انعكاسًا للخداع بأبشع صوره.

ليست هناك تعليقات: