2010-04-13

التكية المولوية تاريخ حي صاغه الدراويش!


على مدى أكثر من سبعة قرون ظلت "التكية المولوية" بشارع السيوفية بالقاهرة القديمة رمزاً لنماذج المذاهب والثقافات فهي المكان شبه الوحيد في مصر الذي امتزج فيه المذهب السني بالشيعي وهي العمارة الأثرية المكتملة الأركان، إذ بها قاعة الرقص والضريح والتكية لإقامة الدراويش، كما أن بها أعمدة وصوراً وخطوطاً ترمز لطريقة فلسفية روحية صوفية أسسها مولانا "جلال الدين الورمي"، أما منشئ المكان بالأصل فهو "الأمير سنقر السعدي" أحد أمراء دولة الناصر محمد بن قلاوون وقد أنشأه لهدف آخر مختلف تماماً عن الوظيفة التي أداها لاحقاً. مزيد من التفاصيل في السطور التالية التي تسلط الضوء على جزء لا يزال حياً من التاريخ والفلسفة الروحية للشعوب.
المكان يرجع تاريخ بنائه لسنة 721 هجرية وله أكثر من مسمى فهو "مدرسة سُقر السعدي" و "السمع خانة المولوية"، و "ضريح سيدي حسن صدقة"، و "التكية المولوية"، وقد بناه الأمير سُنقر السعدي أحد أقوى أمراء دولة الناصر محمد بن قلاوون وكان يتولى له وزارتي الدفاع والداخلية، أو الجيش والشرطة، وقد بنى المكان وبنى لنفسه "تابوتاً" كي يُدفن فيه. كما بنى تابوتاً آخر للعالم الصوفي "سيدي حسن صدفة" ويشاء القدر أن يقوم أحد أتباع "سنقر" ويُدعى "قيسون" بالوشاية به لدى السلطان الناصر محمد بن قلاوون فيطرده من مصر إلى طرابلس بالشام ويموت هناك، أما "سيدي حسن صدقة" فكان بمثابة الشقيق الروحي في التصوف للقطب الصوفي الكبير سيدي "أحمد البدوي" وضريحه في طنطا بوسط الدلتا، واعتاد الأثريون أن يطلقوا مسمى "مشهد" على مدافن آل البيت، و "ضريح" على مدافن الصوفية و "مدفن" على مدافن الناس العاديين، وعائلة "سيدي حسن صدقة" تعود جذورها لنابلس بفلسطين، وأقامت بين القاهرة و "شبشير" و "تلا" و "المحلة" وحالياً يرأس د. عبد الفتاح صدقة جامعة طنطا.
مدرسة وخانقاه
يقول د. حجاجي إبراهيم رئيس قسم الآثار بجامعة طنطا والمسؤول عن التكية كمفتش آثار منذ 1977 ورئيس جمعيتي الآثار المصرية والآثار القبطية: ألحق سنقر السعدي بالضريح مدرسة وملجأ للأرامل والمطلقات والعجائز ولأن ثقافتنا المتوراثة كانت ضد إلحاقهن بالملاجئ تعطلت وظيفتها هذه لقرون، فقلب "سنقر" وظيفتها من ملجأ لمدرسة والخانقاه أرضاً ملكاً له في "النحريرية" للإنفاق عليها، وهي المعروفة الآن بـ "النحارية" في كفر الزيات، وظلت المدرسة مستخدمة حتى حضرت "طائفة المولوية" لمصر، وهم الدراويش أتباع مولانا جلال الدين الرومي، فاستوطنوا بالمكان وأقاموا احتفالاتهم به وهي احتفالات راقصة دائرية ذات رموز فلسفية خاصة.
سليم الأول يختفي بها!
ومن الطريف أن السلطان العثماني سليم الأول قبل غزوه لمصر تخفى في زي الدراويش المولوية وظل بالتكية لشهر كامل متنكراً كجاسوس للاطلاع على أحوال مصر والمصريين قبل غزوه لها، وبالفعل عرف أن السلطان المملوكي "قنصوه الغوري" جهز جيشه وسفنه في الإسكندرية بأسطول السفن، وبالفعل الزائر لقلعة قايتباى بالإسكندرية سيجد حجراً، عليه مرسوم ملكي لسلطان الغوري يعلن فيه حالة الطوارئ، وبالنهاية حضر السلطان العثماني من الشام، وليس من البحر كما حضر ومعه المدفعية البرتغالية التي لم تكن معروفة بعد في جيش المماليك فانتصر على المماليك بالخيانة والخديعة والتجسس والمدفعية الحديثة، ويسجل التاريخ كيف استبسل السلطان الغوري وكاد أن ينتصر لولا خيانة بعض قواد جيشه ومنهم "خاير بك" الذي انظم لمعسكر العثمانيين وأطلق عليه المصريون لاحقاً اسم "خاين بك".
رموز
نعو للتكية المولوية التي بنيت على أساس روحي فلسفي، فقاعة الرقص الأساسية أو المسرح به 12 عموداً على أسماء الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة وبها رقم ثمانية دلالة على أبواب الجنة الثمانية وحملة العرش الثمانية، وتقع القاعة فوق حمام السيدات الذي يستخدم الماء الساخن دلالة على أن عرش الرحمن فوق الماء وصالة فوق الماء، وقبة الساحة مزينة برسوم وصور جميلة لعصافير وطيور دلالة على فناء جسد الدرويش وتحليق روحه في الفضاء بعد انطلاقها، وشجر السرر يرمز للخلود ورائحته العطرة تغطي على رائحة جثث الموتى والصبار بالمقابر على عادة المصريين من آلاف السنين كرمز للخضرة والحياة والبعث ومقاومة الفناء، وأعلى المسرح توجد لوحات خطية أشهرها "يا حضرت مولانا قدس سره" كتبها الخطاط التركي الشهير "عزيز رفاعي" الذي جلبه الملك فؤاد خصيصاً نكاية في "محمد حسني البابا" والـد سعاد حسني وكان خطاطاً أيضاً.
والثابت أن مولانا جلال الدين الرومي كان فقيها عاديا حتى التقى بالصوفي "شمس تبريزي" فعلمه طريق الروح والتصوف وأخبره أن كل شيء بالوجود يسبح لله ويدور حول المركز في حركة دائرية، من هنا احتفلت الطريقة المولوية بالرقص لأنه تعبير جسدي دائري وأدخلت رموزها الخاصة فالطربوش فوق رأس الدرويش هو عنوان على "شاهد القبر" فوق الجسد الفاني ويسمى "القاووق" والجبة هي "التابوت" واللون الأبيض دلالة على الكفن بلونه الأبيض، وعندما يرفع الدرويش يده لأعلى عند الرقص فمعناه أنه يتلقى الهبات من السماء وعندما يهبط بها لأسفل يعني أنه يقدم العطايا للناس... والمولوية طريقة مشهورة في تركيا لليوم وقد حضرت لمصر أكثر من مرة لتقديم حفلاتها الراقصة، وقد طور المصريون كعادتهم الطريقة وقلدوها كما فعل "أولاد أبو الغيط" و "فرقة التنورة" وقد خلف جلال الدين الرومي مؤلفات كثيرة أشهرها "المثنوى" المطبوع في 6 مجلدات بتحقيق د.شتا.
وقد شهدت التكية كما يقول د. حجاجي إقامة أول مؤتمر للموسيقى العربية في مصر سنة 1932 وقد جمعت اسطواناته من المرحوم عبد العزيز عناني بناء على توصية الموسيقار الراحل عبد الحميد توفيق زكي، وظلت المولوية بالتكية حتى قامت الثورة سنة 1952 فطردوا منها، وقيل إنهم كانوا يشربون الخمر مع أنهم تكلموا عن الخمر الإلهي وكانوا يعلمون أبناء الأغنياء العزف على الناي.
ولم يكن المكان مسجلا كأثر حتى ضم حديثا واختارته المستشارة الثقافية الإيطالية " كارلا ماريا بورى" لترميمه واختارت المرمم " فان خوري" واختارتني كمفتش آثار منذ سنة 1977 وبالفعل نجح المكان في تخريج دفعات عديدة من المرممين। وظل يقوم بدور وظيفي كدار مسنين حتى سنة 1984 وتحول الآن لمركز للآثار الإيطالية وبعثاتها في مصر، وبين الحين والآخر يشهد حفلات روحية راقصة لفرقة المولوية التركية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الوطن العربي، مجلة الراصد

ليست هناك تعليقات: