2013-04-14

د.مني النموري....إحسان ..ماذا؟



طل وجهها فجأة من احد جيوب حقائب الذكريات التى نحملها على ظهورنا وننحنى تدريجياً تحتها دون ان نفهم. نسمى الإنحناءة عوامل السن وخشونة العظام بينما هى ترزح تحت تجارب وذكريات فى حالة حمل دائمة لاتنتهى بوضع أبداً.
"إحسان" زميلة رافقتنى فى مكتب واحد فى سنة واحدة بعيدة إنتهت بإختلاف إختياراتنا فى التخصص، الحق أننا كنا نسميها "دكة"، وهى كرسى خشبى عريض يسع لإثنين أو ثلاثة حسب كثتفة الفصل، تلتصق فيه طاولة مستطيلة للكتابة، لونها بنى باهت ممتلئ بحفر الأقلام والكتابات المختلفة، ثم تفرقت بنا الطرق وإن ظللنا على إتصال لبضعة سنوات، ثم أنهى مشروع الزواج اى فرص للتلاقى أو حتى الإتصال بيننا وبالنسبة لى انهى القدرة على التذكر لسنوات عديدة..ولاعجب فقد تزوجت كل منا فى مدينة مختلفة، وإنشغلت بالعمل وهى أيضاً بلا شك، غير أن الثابت أن الزواج فى حد ذاته مفرمة عتيدة تعيد تشكيل الزوجين، والمرأة تحديداً، جسداً وروحاً، تفرمها، تعجنها، تضيف عليها نكهات مختلفة، تشكلها فى قالب جديد وتزج به فى الفرن، وتكون النتيجة إما مقبولة أو غير مقبولة، غير أن المفرمة تفشل دائماً فى طحن عظمة هنا، قطعة هناك فتبقى هذه تقف فى حلوق الأكيلة وتذكر المرأة بما كانت عليه يوماً.
حين طل وجهها الجميل من جيب حقيبة ذكريات منسية، عذبنى اننى لا أستطيع ان اتذكر الإسم بالكامل، اسابيع طويلة وانا احاول بلا جدوى، هل تنمسح الذكرى مثل الرمال بعد العواصف؟ ولماذا لم ينمح الوجه إذن؟ ولا الشعور المصاحب؟ الراحة؟ ولا الشجن؟ إحسان..إحسان..إحسان ماذا؟ لا رد فى صحراء بعيدة أجدنى فيها. 
وجه إحسان منمق، صغير فى حجمه وملامحه، قمحى اللون، والعيون عسلية واسعة، طويلة الرموش ومطوية، الحياء فى العينين واضح، مغلف بطيبة وذكاء مهذب، لايأخذ صاحبته إلى طموح مدمر ولا يعد ناظره بشئ غير متوقع ولا خارق، يوحى بثقة ولطف، الراحة هى الكلمة الصحيحة التى تحيط بالوجه، ينتهى بشعر بنى طويل مرفوع إلى أعلى الرأس فى شكل "كعكة من الشعر"، تلك الكعكة مع قسماتها المنمقة ورشاقة قدها تأخذك قطعاً فى مرة من المرات لأن تتخيل راقصة بالية، ربما كنت أسميها "الفراشة"..أو ربما الآن أظن أننى كنت أفعل، الحق أننى لا ادرى كما لا ادرى لماذا يلح على ذهنى وجهها اللطيف من فترة ليست ببعيدة، ولا لماذا إختفت كليةً من تفكيرى لسنوات طويلة، ولماذا أكتب عنها الآن بينما يوجد الكثير مما يستحق الكتابة العاجلة. لغز تلك النفس، لغز..فها انا ذا أترك كل شئ مؤجل لأكتب عن وجه لم يعد موجوداً إلا فى خيالى فهى بالقطع قد تغيرت عن تلك الحقبة، أقله انها لابد وأن زادت فى الوزن ولو قليلا، وغالباً إرتدت الحجاب، ولا اعلم عن الراحة فى القسمات وإن كنت اتمنى أن تكون هناك، لكنها بلا شك لم تعد هى هى، كما لم أعد أنا أنا، مثلما يتغير كل شئ.
"لماذا تكتبين عن شئ غير موجود؟" تنازعنى نفسى وانا أفكر فى وجه صديقتى بينما أقود سيارتى أو أطبخ الطعام، وقتان مثاليان لتدفق الذكريات والصور، وكانها هى الأخرى تعاند حلم الكتابة فتنصب مفرمتها بعرض الطريق، اوفوق الموقد فإما أترك السيارة على الطريق لأكتب أوأترك الطعام ليحترق ويجوع العيال، أو اترك الفكرة فينتشر فيروسها اللا مرئى فى كل الجسد يمرضه ويظل هناك غير مكتوباً... متوطناً.
ادفن سؤال نفسى لنفسى فى صوت الراديو.."رافضك يازمانى ..يامكانى..يا أوانى..انا عاوز اعيش فى كوكب تانى" .."قول يا عم مدحت قول..كده كِملت ".ترد نفسى على نفسى بينما مدحت صالح يشدو كوكب تانى. 
هل كنت أغار من رشاقتها واللطف الذى تحدثه حولها مقارنة بوزنى والجدل الذى أثيره حولى بتميزى وحدة أسئلتى؟ لا أستطيع أن أجزم، ربما، أكيد. انظر على الأمر الآن أنها دائماً فى المكان الأوسط المريح من العلاقات والحياة، مدعومة بقناعة داخلية ورضا بينما لم اكن كذلك، ساكنة كانت وسَكنٌ هى فى قبولها للحياة، لدورها كإبنة كبرى لأسرة رحل عائلها للخليج فى الثمانينيات للعمل، قابلة للوضع بعد أن ربطت الأم المنديل القطنى الأبيض حول رأسها،وتقلصت ملامح وجهها إستعداداً لمسئولية العيال الأربعة، ومن قبلها رفعت الأم الملابس الزاهية الحريرية إلى أعلى رف فى الدولاب وإكتفت بجلباب البيت الكستورإعلاناً لسنوات من التقشف العاطفى والحرمان الإجتماعى فى غياب الأب، وبعد أن بات واضحاً ان أخت احسان الصغرى من نوع مغرور أنانى قرر ان يضرب بكل الظروف عرض الحائط ويحمل من حوله كل الفواتير ليرتاح هو، حتى عند هذا لم أراها تشتك أو تحزن، ثم بعد عشر سنوات أو أكثر من إنقطاع العلاقة بيننا لمحتها فى الشارع من نافذة بيت أبى، تمشى مع زوج بدا لى فى شكله وصوته الواضح من تحت النافذة مثل قفص لفراشة سنوات المراهقة، لكنها بدت راضية وإبتسامتها الغامضة لاتفارقها، تحمل طفلاً صغيراً أخذت ترفع البطانية على ظهره ورأسه طول الوقت فى حماية متواصلة من تيار الهواء البارد الذى قد يخدعها من أى فتحة فيمرض، شاهدتها حتى إنتهى بها الشارع اوإنتهى الشارع من عينى.
قبول عريض ومذهل للحياة كما تقطر نفسها فى كفيها كان هو سبب الراحة وقتها وربما سبب الذكرى الآن، لكننى أنظر علينا الآن من منظور عقدين وزيادة من الزمان، لم تكن عدساتى وقتها قد اكتسبت كل تلك الأبعاد، كنت أرانا بعين مجردة، طفلة وساذجة ومغرورة. 
"كل هذا لم يعد موجوداً. تدورين فى أفخاخك النفسية التى تصطادك بعيداً عن الحقيقى. الحقيقى ان الوضع جَد بائس والثورة تموت والمجاعة قادمة لا محالة." تهمس نفسى الى نفسى وأفكر. بالفعل، فالنفس هى التى تخلق الأزمنة المتعددة فى اللحظة الواحدة فأكون فى وقت واحد وانا فى مطبخى فى أولى \أول مع إحسان فى دكة بنية خشبية نتهامس حول درس التاريخ ونختطف لقمة تحت الدكة وظهر الأستاذ لنا، أو أتغابى عليها وأصر ان أكون بجانب الشباك يوماً أو فى طرف الدكة الخارجى يوماً كما يحلو لى فتسكت ولا تشتك، او اهمس لها بالإجابة الصحيحة فى لحظة "زنقة" أو نتقاسم قطعة شوكلاتة أو ننظرمن النافذة الملاصقة على الشارع..وعلى المستقبل.
كيف كانت ترانى؟ أستطيع ان اجيب عن هذا.لا، لا أستطيع، فها انا اعود لطفوليتى وغرورى، لكن اظنها كانت بعيدة عن الغيرة أو الضيق، لم يكن تفوقى يهز من موقعها المثالى ولايضايقها.كانت راضية بأنها بهدوئها تحتوى ثورتى الدائمة على الحياة وأننى سعيدة، نَعِمَت إحسان بنعمة الرضا وقلة الرغبة فى التنافس وكانت بيننا محبة عذبة تطغى على أى تعقيدات، لأننا وبدون أن ندرى قدمنا وعد الصداقة المفتوح، الوعد الغير منطوق بالثبات والدعم، وعد بقى طول ما بقى، ولم تختبره الأيام من بعدها ولم تعقده الأحداث. 
لكن إحسان ماذا؟ كيف اتذكر كل هذا عنها ولا أتذكر إسمها بالكامل؟ كيف تعمل هى الذاكرة، تمشى وتتوزع فى مسارات من إختيارها المحض، تبعدنا وتقربنا وتتكوم فى حقائب نرزح تحتها وحين نود ان نلتقط منها حاجة، تراوغنا وتلقمنا ما تريد، وقتما تريد.
تأتينى إحسان فى حلم قصير، ترتدى السواد ومن حولها عائلة صغيرة، هممت ان أسألها ماذا فعلت بها الأيام، وكيف حالها الآن؟ كيف حالنا الآن؟ وددت ان أسألها بخجل عن إسمها بالكامل رأيتها تبتسم وترحل دون ان تخبرنى بشئ.
فى الصباح، وفى طريقى لغاية من الغايات التى لا تنتهى على طريق الحياة، تنفتح فتحة صغيرة من قاع حقيبة الذكريات، ينساب منها إسمها فى أذنى ولايفاجئنى هذا ولا أجدنى أصيح فرحاً أو حزناً، فقط أشعر كمن يجد ما تاه منه لفترة طويلة لكنه وقن من وجوده فقط لم يعرف متى يجده، وجدتنى أردد " إحسان فهمى..إحسان فهمى..أين انت الآن؟"


ليست هناك تعليقات: