2012-11-18

د.منى النموري...الفرح فرحنا ..والميت ميتنا




فــي حيــاة كل منا شخصيات لا ينساها ولا ليوم واحد، وإن لم يتذكرها مباشرة، يتذكر شيئاً ما قالته أو فعلته يوماً، ولم يفهمه وقتها ثم تأتيه الإجابة بعدها بسنوات....
تذكرت اليوم جــدتــى رحمة الله عليها، حين دفنت ابنتها الأثيرة يوماً وكان صوت بكائها يشرخ القلوب من على بعد، وبعد هذا بعام زغردت وهى تخطب لحفيدتها فى نفس البيت ودموعها المنهمرة تدخل فمها، وتقول بحدة رداً على العيون المتعجبة، الفرح فرحنا والميت ميتنا....وقتها ظننت أن جدتي مصابة بالهيستيريا أو العصاب، لم أكن أعرف معنى المشاعر الحادة المتناقضة التى قد تصيبك وتقسم توازنك نصفين.... بعدها عرفت كم كان حزنها وفرحها عظيمين.الآن أرى أن المصريون جميعاً قد أصبحوا جدتى، تشرخهم الفاجعة حتى تقصم ظهورهم، ينكفئوا على وجوههم من الكرب ثم تدفعهم الحاجة الى الحياة الى دفع نفس الطاقة على الفرحة، فينطلقوا للفرح بنفس إنكفائهم على الحزن..فقط اليوم، السبت 17 نوفمبر 2012 حدث هذا بشكل متزامن حين فقدت مصر خمسين طفلاً فى حادث أتوبيس المعهد الأزهرى المدرسى فى منفالوط حين إصطدم بالقطار، وفى الليل فاز النادي الأهلي بمباراة بطل أبطال أفريقيا، وبدا كأن الناس كلهم جدتي فالعين تدمع على الأطفال والفم يزغرد لفرحة انتصار طال غيابها والناس على حافة العصاب لامحالة!
كنت أشترى متطلبات المدرسة مع ابنتي والقلب ثقيل..ثقيل.. مثل ورم على الصدر يزيد كل يوم ولاحيلة لى فيه، كنت ألمح خوف ابنتي المكتوم من حادث القطار وأسئلتها حول الموضوع تزيد الخوف أكثر مما تزيله: " ماما هو كان فى فى الأتوبيس بنات؟ أكيد. "طيب هما كانوا حاسين؟" مش عارفة" طيب هم فى الجنة" إن شاء الله حبيبتي...دول كانوا رايحين يتعلموا، فى منزلة الشهداء يا قلبي " طيب هو السواق كان مش شايف؟" مش عارفة؟ طيب هو القطر كانت إشارته مفتوحة؟ أكيد " "هم الأهالي راحوا اشتكوا؟ "الشكوى لغير الله مذلة. "يعنى إيه؟" يعنى حنشتكي إيه ولا إيه ولمين ولامين؟... يامريم الصعيد تعبان..تعبان خالص وماحدش سائل فيه، زى النوبة وسيناء والعشوائيات.... التركة تقيلة قوى واللى شايل لسه مش شايف إيه المهم وإيه الأهم و.." ماما أنتي عديتى الشارع بتاعنا!"
أنتبه وألف من جديد، تمنيت أن تغير ابنتي الموضوع فلا طاقة لى بأسئلتها الكاشفة، أشغل الراديو فى حركة تلقائية، لا أطيق الأغاني وأجد كلاماً على القرآن الكريم. أديره ثانيةً لأجد مباراة الكرة مذاعة فى الدقائق الأخيرة، ورغم أنني أكــره الكرة إلا أن حماسة المذيع تأخذني معها للحظات أعيش فيها حتى إعلان الفوز الذي يأتي مثل دفقة ماء بارد على صفيح ساخن فلا يفلح سوى في إخراج فورة حرارة أخيرة منه... وأسأل نفسي، هل كنت سأشعر بأنني أفضل لو كان الأهلي قد هُزم؟ وقبل أن أجد الوقت لإجابة نفسي على سؤالها، كان هناك من يحاول ان يتجاوزنى بالسيارة وهو يُقلب أنوارها ويزمر بزمارة سيارته بنغمة مفرحة دلالةً على نشوته بالنصر، وحين تجاورت السيارتان بدأت بشكل لاشعورى أشير له بيدى بعصبية أن هذا لايصح وأهز رأسي رفضاً ويبدو أن وجهي كان مرعباً وأنا أفعل هذا أو أن الرجل كان بالفعل فى حالة صراع نفسى داخلي حول مسألة الزمارة هذه فقد توقف فوراً وانطلق!
"ليه ياماما كده؟" ..لم أستطع ان أرد فقد كان السؤال بالفعل قد جرى بداخلى محرقاً مثل دموع جدتى . لماذا وأدت لحظة فرحة عامرة أصبحت شحيحة فى زمننا الصعب. ألم أشعر للحظة أننى أود ان أفعل مثله؟ 
أخذت ابنتي فى حضنى وشعرت باضطرابها، مابين الدمع والصداع والتعب.... وأنا أحضن ابنتي ترائت لى طرقات بلادى التى أختلط فيها الإسفلت بدماء أهلها، هذا الطريق الزراعي، لا أستطيع أن أحصى كم حادثاً رأيته عليه، هذا الدائري، حوداثه خيالية، هذا طريق دمياط، قطرات من دمائى عليه حين سالت عليه دماء أبى، هذه طرق الصعيد حيث لا إضاءة ولا مراكز خدمة ولا مرور ولا حضارة..هذه..
لماذا رأيت فى حلمى طابور طويل من القتلى على أرض مصر؟ طابور يجب علينا أن نشهده ونشهد الدمع عليه؟ نتاج طبيعي لسنوات الإهمال والفقر والنهب والفساد الممنهج، مابين الحوادث والمستشفيات، والإرهاب القادم و الحماقات السياسية، مابين العنف فى العشوائيات والانفلات الأمنى، مابين سرطان الأجسام والعقول، طابور طويل، كانها صورة واحدة لكائن واحد تكرر نفسها في ملايين من المرايا؟




ليست هناك تعليقات: