دكتور محمد الشافعي
أميلُ دومًا إلى كل ما يحملُ في ملامحه أثر الزمن؛ إلى الشوارع التي مرّ بها ضوء قديم، والبيوت التي احتفظت برائحة أيام مضت، إلى الأشياء التي لم تَعُد تُصنع، لا لأنها استُهلكت، بل لأن روحها لم تَعُد تُفهم. لا أرفض الجديد، فليس في قلبي عناد الزمن، لكن معظم ما يُطرَح الآن لا يُشبهني، لا يُشبه ملامحي الداخلية، ولا يُشبه سُكوني ولا ضجيجي. أشعر بالغربة في محيطه، في صخبه المصطنع، وفي جوّ لا يستريح فيه القلب.
كل شيء تبدّل. كانت الحياة يومًا بسيطة حدّ الدهشة، تُسعدنا أقل الأشياء: ورقة، لحن، ابتسامة، لقاء. الآن، رغم سهولة كل شيء، رغم أن الوسائل تعددت، والطرق تشعّبت، والمصادر تدفقت، لم تَعُد السعادة تسكن قلوبنا، ولا الطمأنينة تعرف طريقها إلينا. كل هذا التيسير لم يأتِ بالبُشرى، بل زاد الجراح اتساعًا، وكأنّ الوفرة لا تعني شيئًا حين يغيب المعنى.
كانت الأيام قديمًا أكثر اتساعًا للروح، بلا ضغط يُفسد البهجة، ولا صراع يُطفئ الرغبة. مارستُ هواياتي بحرية المُحب، لا المُنافِس، ووصلتُ إلى القِمم بسُلَّم الاجتهاد، لا بِمِعراج الواسطة. في الكشافة، في كرة السلة، على خشبة المسرح، كنتُ أنا، وحدي، بصوتي وخطوي وشغفي.
وكان للقراءة متعة لا يضاهيها شيء، حين كانت الأوراق تنبض، وتُلامس العين والقلب معًا؛ حين كانت الجريدة صباحًا نافذة على العالم، والمجلة في المساء فسحة خيال.
أحنُّ لتلك الأيام لا لأنني أعيش في الماضي، بل لأن الماضي كان يسكن فينا؛ يمنحنا أنفسنا. أما الحاضر، ففيه من التبدّل ما يجعلنا غرباء حتى عن أرواحنا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق