2013-07-01

د.مني النموري....زينهم



نحيف ذو شارب رفيع وعينان ضيقتان، فاتح البشرة، يصعب ان تعرف لأول وهلة إن كان أمن الإدارة التعليمية أم موظف بها لكنه أول وجه يقابلك حين تدخل وأنت محمل بالأسئلة والأوراق لتخرج محملاً بمزيد من الأسئلة واوراق أخرى، وقفت عنده منذ أسبوعين وانا فى بدء مشوار نقل اولادى من مدرستهم الى مدرسة أخرى فى إدارة تعليمية اخرى، المشوار طويل ليس فقط من مكتب الى مكتب فى كعب دائر بين موظفين الإدارة، بل من المدرسة المحول منها الأولاد الى المدرسة المحولين لها للإدارة الأخرى التى تتبع لها المدرسة الجديدة، وبالطبع قلة الخبرة دفعتنى للقيام بالكثير من المشاوير العشوائية التى كان من الممكن توفيرها فقط لو إستأصلت خلايا المنطق من مخى وتركت الخلايا العشوائية اللا منطقية تحكم تفكيرى، فلايوجد منطق فى ترتيب الأختام، ولا يوجد منطق فى أن يكون هناك نوعين من طلبات التحويل واحد يدوى والآخر إلكترونى، ولايوجد منطق فى أن يكون كل طلب تحويل بحوالة بريدية من مصلحة البريد فتتكلف مشواراً آخر الى البريد(بالتوكتوك لأنك لو تحركت بالسيارة ربما لاتجد مكاناً تركن فيه سيارتك مرة أخرى وبالقطع لن تجد بنزين! ورحلات التوكتوك هذه حواديت أخرى لايتسع لها الوقت هنا ) لتعود وتقف فى طابور الإدارة من جديد بينما يمكنك ان تدفع نفس القيمة فى الإدارة وينتهى الأمر، ولايوجد منطق من إحضار بيان تدرج لكل طالب من الصف الأول الإبتدائى من كل مدرسة كان بها الطفل ويختم من الإدارة، ولايوجد منطق من الأختام، أختام كثيرة فى كل مكان على الورق يقوم بها الموظفون بشكل شبه عشوائى دون النظر اليها، "أختام أختام اختام....تاك، تاك، تاك، اللى بعده"
وبالطبع لايوجد منطق من أن أتوقع اى منطق فى عملية يٌفترض أنها تعليمية لكن لايحكمها اى منطٌق بدايةً من الأبنية الى المدرسين الى الموجهين الى الطلاب مروراً بأولياء الأمور سوى أننى اهوى خبط دماغى فى الجدار!!
فى لحظات كثيرة فكرت فى الرجوع عن القرار برمته وأنا أحاول تمرير فكرة ان المدرسة الحالية جيدة وأننى انا التى تعمل من الحبة قبة كما يقول المثل..لكن زينهم كان يظهر امامى مثل الضمير ويغوينى بأن الأمور تمشى فى مسارها الصحيح وان الباقى يسير..."خلاص اهه" فأقع فى فخ الأمل من جديد.
حين وقعت فى مصيدته أول مرة وأنا ادخل الإدارة التعليمية وقد أنهكنى الحر ورسمت الشمس امام عينى خطوطاً سيريالية فى الهواء، عشمنى بأن يساعدنى فى إنهاء الأوراق بسرعة، فتشت فى حقيبتى ولم اجد سوى مبلغ ضئيل من الفكة اعطيته له لكنه لم ينزعج، بل تقبله بهدوء وهو يقول "ولايهمك ياست" وتصورت أنا أن زينهم شخص قنوع، وربما هو كذلك لكن ما أعرفه الآن ان زينهم عليم ببواطن الأمور وواثق ان المشوار طويل وأن أمطار الجنيهات لن تتوقف إلا بعد أن يمتلئ الجيب، كم أنت عظيم يا زينهم!
وفى الإدارة أنت فى بحر عظيم من الكائنات من كل شكل ولون ، من كل لغوة ولهجة والكل يتحرك فى كافة الإتجاهات وكلمة السر "تاك، تاك، تاك" من فوق كل مكتب تتخللها جمل سخط وسباب بصوت خفيض للغادين القادميين وهمهمات وجمل يلقيها الموظفون من وراء مكاتبهم لاتكاد تتبينها من سرعتها وإختزالها ويكون عليك أن تتوسل الإعادة أو تذهب لموظف غيره يترجم لك او تعود الى زينهم للشرح والتفسير او ربما للحركة وإنهاء تلك الورقة او ذاك ليعود بها فيزغرد قلبك من الفرحة ثم تكتشف أن الباقى لايزال كثيراً أو انه أحضر ورقة وترك اخرى وأنك عائد لامحالة الى زينهم فى يوم تالى أو يوم يليه حسب شطارتك فى إنهاء أوراق اخرى متطايرة من تلك المؤسسة أو ذاك. 
ثم ان زينهم دبلوماسى لبق! فهو يغير لكنته بسهولة مع الوافدين العرب وخاصة السوريين منهم ويٌعوج لسانه " يا إختى تكرم عينك شو بدك" تمتلئ بهم الإدارة بمعاناتهم العظيمة فهم لا يفهمون بشكل محدد ما هو المطلوب منهم، فلا توجد ورقة أو يافطة أو منشور يضم كل الخطوات دفعة واحدة لتعرف رأسك من قدميك بل عليك دائماً تحسس ما يجب ان تنهى من هذا الموظف أو ذاك ولو تهت في النهاية لن تجد سوى زينهم، العقل المركزي الذي يعرف كافة الإدارات والموظفين والموظفات ويستطيع الإفتاء فى كافة الحلول القانونية للأحوال المدرسية المستعصية وإن لم يعرف فالحق لله زينهم يسأل ولا يتركك إلا وأنت راض وقد أنجزت المصلحة ويٌكافئ إما بالجنيهات أو أضعف الإيمان ممن لا يفهمون ما يجب ان تفعله مع زينهم بإبتسامة جميلة من هيفاء شامية مصحوبة بكلمات رقيقة بلكنة محببة"الله يخلى لى إياك!" وقد تكون عنده أحلى من الجنيهات!
يصحبنى وجه زينهم للفراش وهو محاط بكثير من الجمل والعبارات المسجلة فى ذاكرتى بالكثير من الأصوات المختلفة: " صباح الخير، أيوه بيان نجاح " روح التعليم الإبتدائى. " " عند الأبله مريم" " يمين فى يمين" المكتب اللى ف الوش" " لا إنت ترجع تانى إدارة الوافدين بقى" وكثيراً ما كنت أنام ساخطة وأحلم به وأنا أوبخه وأعنفه وربما أسبه لأنه لايتحرك للمساعدة . لكننى فى يوم جلست بجانبه على مكتب الأمن فى إنتظار موظفة فشممت رائحة جميلة ونظرت الى أسفل فوجدت اكياساً من الخبز. سألته فقال أنه الخبز المدعوم يشترك الموظفون فى خدمته لأخذه من الإدارة ويتولى زينهم تسلمه وتسليمه لهم. ثم أخرج من درج آخر جريدة غير معروفة الإسم وجلس ليقرأ فيها بصعوبة واضحة.
"هو انت معاك شهادة ايه؟
"إبتدائية. بس بحب القراية وأحب أعرف البلد فيها إيه"
" وإنت شايف فيها إيه؟"
"شايفها تعبانة ومبظوطة. عارفة يا ست انا لو مبارك طلع ورشح نفسه تانى حانتخبه !"
"بس مبارك هو سبب كل اللى احنا فيه برضه"
" كانوا بيسرقوا وبيرموا لنا حاجة..إحنا دايما بناخد البواقى، دلوقت بناخد على دماغنا وبس"
توقف زينهم ليناول الموظفات اللاتى يجرجرن أقدامهن فى آخر اليوم أكياس العيش المدعوم من إمامه، تتغير وجوههن الصارمة وهن يستلمن أكياس العيش فى إمتنان وضعف. لم يبد زينهم مقتنعاً بما قال لكن ما بدا فعلا ً هو كيف أنهكته الحياة وسلم بضغطها وكأنه حتمى وأبدى. وكأن الحديث إنتهى بيننا،سحب زينهم الجريدة المطوية من الدرج مرة أخرى وأخذ يقرأ فيها بعناية ويلفت إنتباهى لخبر أو صورة من وقت لآخر ويؤكد أو ينفى ويتنهد أحيانا وكأنه يكون أراءً عظيمة عما يحدث. هو بفضل الله يحب القراءة ويقرأ كل شئ يقع تحت يديه وهذا ما ينفعه فى هذه الدنيا ويجعله "سلكاوى".حين قال هذا لى نظرت الى وجهه مرة أخرى مطولاً ولم تكن عيناه ضيقتين الى هذا الحد!!
د.مني النموري


ليست هناك تعليقات: