- إذا كنّا نعاني دائما من غزو التراب بيوتنا، واضطرارنا للقيام بعمليّات التّنظيف المرهقة على فترات متقاربة، فالمفاجأة هي أن الفضاء الذي نتصوّر أنه مساحة شاسعة من الفراغ به الكثير من التراب هو الآخر. الكون نفسه مليء بالتراب! لن تستطيع الهرب من التراب سواء في الأرض أو في السماء، والإنسان نفسه مصنوع من التراب، فنحن من التراب وإلى التراب سنعود يوماً ما.
طائرة ناسا التي تجمع التراب
- تراب!
- يتراوح حجم حبة التراب بين بضعة جزيئات لا ترى بالعين المجردة، وحوالي 0.1 ملليمتر مكعب، وحبيبات التراب غير منتظمة الشكل، وتتفاوت في الصلابة بين الهشاشة الكبيرة والصلابة العالية. ويصنف التراب في الكون وفقاً لموضوعه، فهناك مثلاً تراب “بين كوكبي” -أي تراب يوجد في الفراغ بين كوكبين- وتراب “بين المجرات”، وتراب “بين النجوم”، وتراب يدور حول كوكب معين، وتراب يدور حول نجم في سحابات.. وهكذا. وتختلف خواص التراب وفقاً لأصله.
- دائماً ما كان التراب أحد مصادر الإزعاج الأزلية للفلكيين؛ لأنه يجعل الرؤية غير واضحة فلا يمكنّهم من تبيان تفاصيل الأجرام التي يراقبونها إذا تصادف وجوده بينهم وبينها. وهناك في الكون سحابات من التراب تبدو كأنها نجمت عن تنفيض سجادة هائلة بمنفضة كونية عملاقة!
- ويفسر وجود التراب الفضائي بعض الأحداث الكونية، مثل فقدان النجم المحتضر جزءاً من كتلته، كما أنه يساهم في عملية تكوّن النجوم وتكوّن الكواكب، وله دور في ظاهرة ضوء الشفق، والأشعة المضيئة في حلقات زحل.. وغيرها.
- ودراسة خواص هذا التراب وتأثيراته المختلفة هي عملية معقدة تتداخل فيها الفيزياء الإستاتيكية مع الفيزياء الحرارية وفيزياء الأسطح والنظريات الكهرومغناطيسية وهندسة الكسور وعلم الكيمياء، إضافة طبعاً إلى علم الفلك!
- ويعتبر التراب الكوني مؤشراً مهماً على عمليات إعادة التدوير التي تتم في الكون، وهي عمليات مشابهة لعمليات إعادة تدوير القمامة التي نقوم بها على الأرض! فالمواد التي تتخلف عن النجوم المحتضرة والكويكبات المفتتة والكواكب المدمرة والأنظمة المنهارة تتم إعادة استخدامها لبناء الأنظمة الوليدة الجديدة.
- تجميع التراب الثمين!
- وتقدر كمية التراب الكوني التي تسقط على الأرض بأربعين طناً يومياً! وتقوم وكالة ناسا بجمع عينات من هذا التراب الكوني عن طريق طائرات خاصة تطير في طبقة الإستراتوسفير، كما يمكن جمعه من على الكتل الثلجية في قارة إنتراكتيكا المتجمدة، أو من الترسيبات في قاع المحيطات. وفي الفضاء يمكن تجميع التراب الكوني كهدف ثانوي للرحلات الفضائية عن طريق إطلاق ما يسمى بمجمّعات التراب، وهي أجهزة صغيرة طائرة مصممة لتجميع التراب في الفضاء. من المركبات الفضائية التي كانت تحمل مجمعات التراب المركبات: هيليوس، وبيونير 10 و11، وجيوتو، ومركبات جاليليو، وغيرها.
- وحيث إن التراب الفضائي يدور في مدارات هو الآخر بسرعة تتراوح بين 10 و40 كيلومتراً في الثانية، فإن عملية تجميعه دون أن يتحطم ويتكسّر وهو يتحرك بهذه السرعة الهائلة تمثل مشكلة عويصة.
- وكيف ندرسه؟!
- تتفاعل حبة التراب مع الإشعاع الكهرومغناطيسي بطريقة تعتمد على قطرها، وعلى طول موجة الإشعاع الكهرومغناطيسي، وعلى المادة التي تتكون منها حبة التراب نفسها، والتي تحدد إلى أي مدى ستقوم الحبة بكسر الإشعاع أو عكسه أو امتصاصه أو تشتيته، وعن طريق هذه الخواص التي تتفاعل بها الحبة مع الإشعاع يستطيع العلماء تحديد المواد التي تتكون منها حبة التراب.
- تدمير التراب!
- نعم، يتعرض التراب للتدمير بواسطة عوامل متعددة، هذا خبر سعيد بالنسبة لنا نحن الذين نكره التراب وننظر إليه من وجهة نظر تنظيفية بحتة، لكنه أمر محزن للعلماء الذين يرغبون في جمعه ودراسته. من أكثر العوامل التي تؤثر على التراب الكوني الأشعة فوق البنفسجية التي قد تؤدي إلى انفجار حبة التراب بالمعنى الحرفي للكلمة. وحيث إن التراب يتحرك بسرعة كبيرة كما ذكرنا آنفاً، فإن اصطدامه ببعضه أثناء الحركة، وبأي أجسام أخرى، يمكن أن يؤدي إلى تحرر جزيئات مفردة من حبة التراب وانطلاقها في الفضاء، كما تؤدي التصادمات إلى تفتت الحبة إلى حبيبات أصغر وأصغر باستمرار، بحيث تتحول إلى حبة ميكروسكوبية غير ملحوظة.
- تراب النجوم!
- ليس هذا تعبيراً أدبياً وإنما هو تعبير علمي بحت! وتراب النجوم هو التراب الذي تكثف من الغازات المنطلقة من النجوم. وعادة ما يمكن الحصول عليه من داخل النيازك، التي تحتفظ به داخلها. ويتكون تراب النجوم من نظائر عنصرية غير مألوفة على الأرض على الإطلاق (نظائر العنصر تختلف فيما بينها في عدد النيوترونات في الذرة بينما تتماثل في عدد البروتونات). هناك أنواع عديدة من التراب النجمي، إلا أنه عادة ما يتكون من “كاربايد السيليكون” (جزيء من السيليكون مع جزيء من الكربون)، والجرافيت (نوع من الكربون)، وأكسيد الألومينيوم، ومواد أخرى.
- كل التراب النجمي تكوّن قبل تكون الأرض نفسها بزمن طويل جداً، لذا فمن الأمور المثيرة في معامل الفلك دراسة التراب النجمي الذي يفوق عمره بمراحل عمر الكوكب المنشأ عليه المعامل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق