دكتور محمد الشافعي
لم يعد الإنسان يستمتع بحياته كما كان في الماضي، وكأن شيئًا ما قد تغير في طبيعته أو في طبيعة العالم من حوله. كانت البهجة يومًا ما تسكن في التفاصيل الصغيرة، في ضحكة صافية، أو جلسة مع الأصدقاء، أو حتى لحظة تأمل هادئة، لكنها اليوم باتت بعيدة المنال، وكأنها سراب يطارده الإنسان دون أن يصل إليه. أصبحنا نعيش في سباقٍ لا ينتهي، نلهث خلف النجاح، المال، المكانة، وننسى في خضم ذلك كله أن الحياة ليست مجرد أهداف تتحقق، بل لحظات تُعاش. لم يعد لدينا وقت لنقف ونستمتع بما بين أيدينا، فنحن إما نفكر في الماضي بحسرة، أو ننشغل بالمستقبل بقلق، فلا نترك للحاضر مجالًا ليكون جزءًا من وعينا.
التكنولوجيا، التي كان يُفترض بها أن تقرّبنا من بعضنا البعض، صنعت فجوة بيننا وبين أنفسنا. أصبح الهاتف الذكي هو الصديق الأقرب، والمحادثات الافتراضية حلت محل اللقاءات الحقيقية، والمشاعر اختُزلت في رموز تعبيرية. حتى عندما نجتمع، نجد أن العيون معلقة بالشاشات، والعقول مشتتة بين العوالم الافتراضية. لم تعد الضحكات تُسمع بصدق، ولم تعد الأحاديث تسير بتلقائية، فكل شيء بات خاضعًا للإيقاع السريع والتفاعل السطحي.
المقارنات المستمرة زادت الأمر سوءًا، فكل شخص صار يرى حياته من خلال عدسة ما ينشره الآخرون على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يدرك أن ما يراه ليس سوى جزء منتقى بعناية من حياة غيره. أصبح الإنسان يشعر وكأنه في منافسة غير معلنة، يسعى جاهدًا ليكون مثاليًا، ليواكب ما يراه، لكنه في النهاية لا يصل إلى شيء سوى المزيد من الإحباط. لم نعد نرى الجمال في حياتنا لأننا نقارنه دائمًا بحياة الآخرين، ولم نعد نرضى بما لدينا لأننا نظن أن غيرنا يعيش حياة أفضل.
فقدت الحياة عفويتها، وأصبح الفرح نفسه أمرًا يحتاج إلى تخطيط، وكأننا لا نسمح لأنفسنا بالسعادة إلا في المناسبات المحددة أو عندما يكون هناك سبب واضح لها. قديماً، كانت البهجة تأتي بلا استئذان، في نزهة غير مخطط لها، أو في جلسة عائلية بسيطة، أما اليوم، فنحن نبحث عنها بجهد، ولا نجدها إلا بعد عناء. لقد أصبحنا سجناء لعقلية الإنجاز، حيث نقيس قيمة حياتنا بكمية ما حققناه لا بمدى ما عِشناه حقًا.
التوتر والقلق الدائمين سرقا منا القدرة على الاستمتاع باللحظة، فالعقل لا يكف عن التفكير، إما في مشاكل لم تحل بعد، أو في احتمالات قد تحدث أو لا تحدث. حتى عندما نحصل على لحظة راحة، نجد أنفسنا مشغولين بالقلق حيال ما سيأتي بعدها. نحن نعيش في زمن صار فيه الاسترخاء نوعًا من الترف، وكأن الإنسان قد نسي كيف يكون هادئًا، كيف يجلس بلا هدف سوى أن يستمتع بوجوده.
ورغم كل ذلك، فإن استعادة القدرة على الاستمتاع بالحياة ليست مستحيلة، لكنها تتطلب وعيًا وإرادة. أن ندرك أن السعادة ليست في مكان بعيد نركض إليه، بل في اللحظات التي نعيشها الآن، أن نتوقف عن المقارنة، ونتعلم تقدير الأشياء الصغيرة، أن نعيد التواصل الحقيقي مع من نحب، ونتخلى قليلًا عن إدمان الشاشات، أن نسمح لأنفسنا بأن نفرح بلا سبب، ونعيش بلا قلق مستمر. ربما حينها، سندرك أن الاستمتاع بالحياة لم يكن يومًا أمرًا صعبًا، بل نحن من جعلناه كذلك.