دكتور محمد الشافعي
حدثني صديقٌ مرهفُ الحسِّ، رقراقُ الروحِ، لم يكتب له الله أن يكون أبًا بالمعنى المعروف، غير أن طاقة الأبوة فيه تفوق أحيانًا من رُزقوا أبناءً من صُلبهم. لم تزل يداه تمتدان بالعطاء، وصدره متسع كأفقٍ لا يعرف الانغلاق. حين يُقبل على طلابنا في القسم، تشعر أن الأب جاء لا المدرس، وأن الحنان هبط لا التعليم، وأن ابتسامته المرسومة على الشفاه ليست مجاملة، بل طاقةٌ روحيةٌ تسري فيمن حوله، تطمئن، وتربّت، وتحتوي.
عرفته في مواقفه، فوجدت فيه الأبَ الذي يغفر قبل أن يغضب، ويحنو قبل أن يعاتب، ويُرَبِّي دون أن يُؤلم. لم تمنعه قسوة الأيام من أن يمنح، ولم تبخل عليه الحياة بالحب إلا وزاد هو في بذله. تولى مع أخته تربية أبناء شقيقتها بعد أن اختطف الموتُ والدهم، فكان لهم الظل والسند، والمستشار والرفيق. لم يشعرهم يومًا بأنه مجرد خال، بل عاش معهم كأبٍ حقيقيٍّ بكل ما تحمل الكلمة من دلالة ومسؤولية ومشاعر.
غير أن الحياة، كعادتها، قد لا تُنصف مَن أحبّ كثيرًا. فها هو اليوم، وقد بدأ يشعر بأنه لم يعُد له لزمة. أبناؤه الذين لم يُنجِبهم لم يعودوا يطرقون بابه كما اعتادوا، لا يسألونه رأيًا، ولا يستأنسون بمشورته. كأنما دوره انتهى، أو كأنما محبته لم تكن يومًا جوهرًا في حياتهم، بل محطة مؤقتة على طريق نضجهم ثم نسوها أو تجاوزوها.
وقد رأيته – دون أن يبوح كثيرًا – يغرق في حزنٍ لا يليق بوجهه الباسم، ولا بصدره المفعم بالحياة. ليس الحزن على نكران الجميل، بل على إحساس مباغت بالفراغ. حين يشعر الإنسان أن حضوره لم يعُد مهمًا، وأنه – رغم كل ما بذله – بات زائدًا عن الحاجة.
لكنني أعلم، كما يعلم كل من عرفه، أن مَن يحمل في قلبه كل هذا النبل لا يضيع عند الله. فربما خذله القريبون، لكنه غرس في القلوب ما لا تذروه الأيام. يكفيه أن الله يعلم، وأن في كل طالبٍ احتواه، وكل نفسٍ طيّبها، وكل لحظة حنوّ منحها، سجلًا لا ينسى، وذكرى لا تموت.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق