دكتور محمد الشافعي
في زوايا الحياة الجامعية التي تُعاش بين جدران العلم وفضاءات الفكر، لا تخلو النفوس من تجارب تُزهر أحيانًا وتذبل أحيانًا أخرى، وكان لزميلي النبيل – الأستاذ المحترم الذي نحمله جميعًا في قلوبنا – نصيبٌ من الآلام التي لا تُروى إلا بلغة الحزن النبيل، وقد كُتب له أن يخوض في دروب الوجدان تجارب مريرة، كلما حاول أن يقترب من دفء الارتباط، ارتد إليه برد الخذلان.
أما التجربة الأولى، فقد بدأت حين كان معيدًا حديث العهد بالقسم، يشق طريقه بين الطلاب علمًا وخلقًا، حين لفتت نظره طالبة تُدعى دعاء، بدت له في أول الأمر مثالًا للالتزام والتقدير، وخرجت معه ضمن فريق من الطلاب إلى تدريب ميداني بمنطقة آثار المنيا. هناك، بدا له أنها تتقرب إليه بمودة صادقة، تُغلفها ملامح الحياء وخيوط الاحترام، فاستجابت روحه النقية لهذه الإشارات، ولمّا عاد إلى القاهرة، بادر بخطبتها، مستسلمًا لمشاعره التي لم يعتد التلاعب بها أو بها.
تمت الخطوبة في جوٍ من الرضى الظاهري، ولم يدرِ أن ما غُلف له بورق الأمل، كان يخفي داخله رهانًا عبثيًا. إذ شاءت الأقدار أن تكتشف شقيقته – وبمحض المصادفة – أن تلك الفتاة لم تكن تبادله المشاعر كما ظن، بل كانت قد راهنت إحدى زميلاتها على زجاجة "كوكاكولا" بأنها ستنجح في استمالته إلى حد الخطبة! فكانت طعنة مباغتة، ولكنها لم تكن النهاية، بل بداية كشفٍ أشد مرارة.
إذ اتضح أن هذه الزميلة التي زعزعت أمانه العاطفي، كانت تخطط مع أسرتها لفسخ الخطبة سرًا، تمهيدًا لارتباطها بأخي زميلتها، وهو طبيب مغترب يعمل بالخليج، قدّم لهم من الوعود ما أغراهم بالتخلي عن الخطيب الأول، دون تقدير لإنسانيته أو جرحه النازف. عندها، لم يكن له إلا أن ينسحب في صمت موجوع، وقد انكسرت داخله ثقة كانت بكراً، لم تُمس من قبل.
أما التجربة الثانية، فكانت مع طالبة في الفرقة الأولى، أشار بها أحد الزملاء – وليس كاتب هذه السطور – باعتبارها فتاة طموحة طيبة السمعة. أقبل عليها بقلب يحمل من النقاء أكثر مما تحتمله دنيا العلاقات الملتبسة، فخطبها، وساهم في دعمها الدراسي بكل تفانٍ حتى أصبحت الأولى على دفعتها. ظن أنها ستكون له شريكة عمر ومرفأ طمأنينة، فإذا بها تحمل له خيبة أكبر من سابقتها.
فما إن تفتحت أمامها أبواب التفوق، حتى تورطت بعلاقة خفية مع أحد أبناء تجار الذهب، ثم بزواج عرفي مع عميد الكلية ذاته، وذلك للخروج من مأزق كان يُهدد مستقبلها. كانت الكارثة أكبر من أن تُحتمل، إذ كان عقد قرانه قد تم عليها، فانكشفت أمامه تلك الحياة المزدوجة التي اختبأت خلف أقنعة الاجتهاد والتفوق، فما كان منه إلا أن طلّقها، وغادر المشهد مطوي القلب، كأنما فقد شيئًا من إنسانيته في كل مرة يُخذل فيها.
ثم أُعلنت مفارقة قدرية أكثر غرابة، إذ تم تعيينها بعد ذلك معيدة بالقسم نفسه، وهي الآن دكتورة، متزوجة وأم، تمضي في الحياة وكأن شيئًا لم يكن، بينما هو لا يزال يحتفظ بمسافة باردة من الذكريات التي لا تموت، وإن سكنت خلف ابتسامة هادئة.
لم يروِ لي زميلي النبيل جميع التفاصيل، بل قال لي فقط: "ثمة أشياء، لو علمها المرء، لاهتزت مفاهيم الطهر في ذهنه"، وترك لي الصمت كي أكمل الحكاية في خيالي.
في كلتا التجربتين، لم يكن قلبه ضعيفًا، بل كان مخلصًا، وما جُرِح إلا لأنه أحب بصدقٍ في زمنٍ يُرَوَّج فيه للزيف على أنه بطولة. وبين الخطوبة الأولى والثانية، لم يكن المتغير هو هو، بل كانت ثقةٌ تُغتال مرة بعد مرة، حتى بات لا يثق إلا في ظله.
كم من قلوب ترفقنا بها، وكم من قلوب أدمتنا، وكم من رجال ظنناهم أشد صلابة، فإذا هم أكثر هشاشة حين يُخذلون في رجاء القلب.
وها هو اليوم يمضي في حياته الأكاديمية، أنيق النفس، راقٍ في سلوكه، محترمٌ بين زملائه وطلابه، لكنه لا يقترب من دوائر العاطفة إلا بقدر، ولا يفتح أبواب القلب إلا بتحفظٍ شديد… فقد تعلّم أن ليس كل من ابتسم، أراد الخير.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق