بقلم: د. محمد الشافعي
في عالمنا الأكاديمي، تتردد كلمة "الجودة" على مسامعنا كل يوم، تحمل معها وعودًا براقة بتطوير التعليم والارتقاء بالمؤسسات الأكاديمية. لكنها، ويا للعجب، باتت في كثير من الأحيان مجرد شعار أجوف، وإجراءات ورقية متضخمة لا تمت بصلة للجودة الحقيقية التي نطمح إليها.
منذ سنوات وأنا أخوض غمار هذه "الجودة"، تلك التي تُفرَض علينا كأكاديميين لا لنطور محتوى مقرراتنا أو لنحسن مناهجنا، بل لننغمس في بحر من الأوراق والنماذج والتقارير التي تستنزف وقتنا وجهدنا. وأكاد أجزم أن ما يُصرف على هذه العمليات الورقية لو استُثمر في تطوير المناهج أو في دعم البحث العلمي أو حتى في تحسين بيئة التعلم، لكانت الفائدة أضعافًا مضاعفة.
نحن لا نرفض الجودة، بل على العكس، نحن أول من ينادي بها، ولكن الجودة الحقيقية التي تُقاس بمخرجات التعلم، بمدى كفاءة الخريج في مجاله، بمدى ارتباط المناهج بسوق العمل، وليس بتكديس ملفات وشهادات لا تسمن ولا تغني من علم. إننا نعيش في مفارقة عجيبة: نطالب بتطوير التعليم، لكننا نهدر وقت أعضاء هيئة التدريس في عمليات بيروقراطية عقيمة، نريد خريجين أكفاء، لكننا نرهق أساتذتهم بتقارير لا تضيف قيمة حقيقية للعملية التعليمية.
وها نحن اليوم نصل إلى الأيام الأخيرة قبل زيارة "مؤسسة ضمان الجودة"، تلك اللحظة الحاسمة التي ينتظرها الجميع للحصول على الاعتماد، وكأنها الغاية القصوى، لا وسيلة لتحسين الواقع. الأيام تمر ونحن نعد الملفات، ونراجع الوثائق، ونحاول جاهدين أن نجعل الأوراق تبدو مثالية، بينما الحقيقة على الأرض تبقى كما هي.
الجودة ليست ورقًا يُرفع، ولا أرقامًا تُعبأ في جداول، ولا اجتماعات تُعقد بلا جدوى. الجودة هي أن يكون هناك وقت كافٍ للأستاذ ليبدع في محاضراته، أن يكون هناك دعم حقيقي للبحث العلمي، أن تكون المقررات متجددة، متفاعلة، مرتبطة بالواقع. الجودة ليست إجراءات شكلية، بل هي جوهر التعليم نفسه.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم الجودة، لنخرجها من سجن البيروقراطية إلى فضاء التطبيق العملي، لأننا ببساطة، لا نريد أن نكون مجرد صناع أوراق، بل صناع معرفة حقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق