2025-02-11

استغلال الوقت أم تضييع الأعمار؟ الفواصل الإعلانية بين الضرورة والجشع

 




دكتور محمد الشافعي 

لا شك أن التلفزيون كان ولا يزال نافذة ثقافية وترفيهية في حياة البشر، لكنه في الوقت نفسه أصبح أداة استغلال تلتهم أعمار المشاهدين عبر الفواصل الإعلانية التي تكاد تطغى على المحتوى نفسه. فبين مشهد وآخر، نجد أنفسنا مجبرين على مشاهدة سيل لا ينتهي من الإعلانات المتكررة، التي لا تكتفي فقط بقطع الإيقاع الدرامي أو التشويقي للعمل الفني، بل تستنزف أعصابنا ووقتنا في انتظار العودة إلى ما كنا نشاهده.


الحقيقة أن الإعلانات هي العصب الاقتصادي للقنوات التلفزيونية، فبواسطتها تتحقق الإيرادات التي تضمن استمرار القناة. لكن متى يتحول الأمر من كونه وسيلة دعم إلى استغلال فجّ؟ حين تصبح مدة الفواصل أطول من مدة المحتوى نفسه، وعندما تتكرر نفس الإعلانات عشرات المرات حتى تصيب المشاهد بالضجر والنفور، فهنا لم يعد الأمر مجرد وسيلة تمويل، بل أصبح إهدارًا متعمدًا لأعمار الناس واستهتارًا بوقتهم الثمين.


المسؤول الأول عن هذا العبث هو الإدارة الإعلامية التي ترى في المشاهد مجرد مستهلك سلبي يجب أن يخضع لحسابات الإعلانات دون أن يكون له الحق في الاعتراض أو الرفض. والقنوات التلفزيونية نفسها تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، حيث تسعى لتحقيق الأرباح على حساب جودة التجربة البصرية للمشاهد. أما الشركات المعلنة، فهي شريك أساسي في هذه الفوضى، إذ تدفع مبالغ طائلة لفرض منتجاتها على الجمهور، دون أدنى احترام لعقول المشاهدين أو حاجتهم إلى متابعة المحتوى دون انقطاع مستفز.


لا يقتصر تأثير الفواصل على الملل فقط، بل يمتد إلى قتل الإيقاع الدرامي، إذ يُفاجَأ المشاهد بقطع المشهد في لحظة حاسمة، فيفقد الانسجام مع العمل الفني. كما أن التكرار الممل للإعلانات يجعل المشاهد ينفر منها بدلًا من أن يتأثر بها، مما يفقدها فعاليتها أساسًا.


ليس غريبًا أن يلجأ المشاهد اليوم إلى منصات المشاهدة المدفوعة التي تتيح له متابعة الأعمال الفنية دون فواصل ولا إعلانات. فهذه المنصات لم تعد مجرد رفاهية، بل أصبحت ملاذًا لكل من يبحث عن تجربة مشاهدة نقية تحترم وقته وإيقاع حياته. لكن يبقى الحل الجذري في تغيير سياسات الإعلام التقليدي، وإعادة النظر في حجم الإعلانات وآلية عرضها، بحيث لا تتحول إلى سرقة ممنهجة للزمن. فالمشاهد ليس آلة لامتصاص الدعاية، بل هو إنسان له الحق في محتوى يحترم وقته وتفكيره.


إن إيقاع الفواصل الإعلانية الطويلة والمتكررة هو عدو حقيقي للمتعة والتركيز، وهو نموذج صارخ لاستغلال الجمهور في عصر لا يعترف إلا بالأرباح. وإذا كان لا مفر من الإعلانات، فلا بد أن تكون بحدود تحترم عقل ووقت المشاهد، وإلا فستظل المنصات البديلة هي الخيار الأمثل لمن يرفض أن يكون أسيرًا لهذا الإيقاع العبثي.



ليست هناك تعليقات: