كتب دكتور محمد الشافعي
في زحام الحياة وصخب الأيام، يجد المرء نفسه في معركة لا تهدأ، بين التزامات متراكمة، وأحلام تتناقص مع الوقت، وواجبات تتكاثر بلا هوادة. ينهض مع الفجر، يضع قدميه على أرضٍ صلبة، لكنه يشعر وكأنه يسير على رمالٍ متحركة، تمتص منه طاقته، تسرق منه حماسته، وتتركه واقفًا في منتصف الطريق، يتساءل: أين أنا من نفسي؟
في ليل الوحدة، حيث الأصوات تخفت، والمقاعد تُصبح باردة، يتسلل الشعور بالاغتراب. ليس اغترابًا عن المكان، ولكن عن الروح. هو بين الناس، يحيط به طلابه، يسألونه، يناقشونه، يقدرونه، ومع ذلك، تسكنه وحشة لا يبددها ضوءٌ ولا كلامٌ ولا ضحكاتٌ متبادلة. هو بينهم، لكنه ليس معهم. هو حاضرٌ بجسده، لكن قلبه يسبح في فراغٍ لا ساحل له.
الأصدقاء؟ نعم، هم هناك. لكنهم مثل الكواكب البعيدة، يضيئون سماءه من مسافاتٍ لا تطالها يده. كلٌّ منهم غارق في أمواج حياته، مشغول بمراكبه التي تبحر بعيدًا عن مرفأ اللقاء. فلا يبقى سوى الصمت، وساعات العمل الطويلة، والهروب إلى المحاضرات، حيث يجد بعض الدفء في عيون تلاميذه، في أسئلتهم، في اندهاشهم وهو يقدم لهم المعرفة بأسلوبٍ يجعلهم يلتفون حوله وكأنهم يكتشفون كنزًا مدفونًا في كلماته.
هو لا يشكو العمل، بل يعشقه. هو لا يهرب منه، بل إليه. لكنه، رغم ذلك، يشعر أن شيئًا ما ينقصه، شيئًا لا تعوضه ساعات الإعداد ولا التميز في العرض ولا الإبداع في الأداء. شيءٌ يشبه الشغف الذي تسلل من بين يديه، كما يتسلل الماء من بين الأصابع، مهما حاول الإمساك به.
لولا الإيمان، لولا ذلك النور الذي يسكن القلب حين تشتد العتمة، لولا صوت القرآن الذي يهمس في روحه، لولا اليقين بأن الله لا ينسى، لولا ذلك كله، لكان من الهالكين. لكنه، رغم كل شيء، ما زال واقفًا، ما زال ينظر إلى السماء، وما زال ينتظر لحظةً تعيد إليه ما افتقده في زحام الحياة.