- الجهاز المحمول من المهد الى اللحد مروراً بالحياة حقائق تثير الجدل والقلق فهو أنيق، صغير الحجم، يقبع في راحة اليد، جاهز دائماً لتلبية طلباتك كيفما كانت وأينما كنت. الهاتف الخليوي أصبح بالنسبة إلينا اليد اليمنى وكاتم الأسرار. لكن ما لا نعرفه عن ولادة هذا المارد الصغير، هو أنها تحتاج الى كمّيات هائلة من المواد الأوّلية... السامّة.
أرقام مذهلة
أكثر من مليار شخص في العالم يملكون جهازاً خليوياً. ففي فرنسا وحدها، ثلاثة فرنسيين من بين أربعة، لديهم جهازهم الخاص بهم. لكن الخليوي يسجّل نقاطاً ليست لصالحه، منذ اللحظة التي يبدأ فيها تصنيعه، وحتى بعد أن ينتهي به الأمر في سلّة المهملات. ويعطينا «أيريك وليامس»، الاختصاصي في التأثيرات البيئية لصناعة الالكترونيات في جامعة هيئة الأمم في طوكيو، فكرة عن المكوّنات اللازمة لصنع جهاز خليوي واحد: 1.6 كيلوغرام من الوقود النفطي، 72 غراماً من المواد الكيميائية، و 32 ليتراً من الماء!
وتتم عملية إنتاج قطع السيليسيوم التي تستخدم في صناعة الخليوي، داخل ما يسمى بالغرف البيضاء، وهي غرف تتوافر فيها شروط صحيّة خاصّة وصارمة جداً. ويتم خلال هذه العملية، طلاء قطع السيليسيوم بمواد سامّة، تُشطف من بعدها بكثير من الماء النظيف. وتكرّر هذه العملية عدّة مرات متتالية. وهذا ما يفسّر الاستهلاك غير المحدود لمواد الإنتاج. ويتابع وليامس: «من خلال عملية حسابية بسيطة، نضرب فيها عدد الهواتف الخليوية المستعملة، بالأرقام التي وردت سابقاً، نتوصّل الى نتيجة مرعبة: إن كمية المواد اللازمة لإنتاج جهاز خليوي واحد، هي أكبر بسبعمئة مرّة من الجهاز ذاته، في حين تتطلّب صناعة سيّارة، مثلاً، كميّة من المواد الأولية، تبلغ «فقط» ضعفي وزنها.
28 كيلوغراماً من النفايات الإلكترونية في السنة للفرد الواحد!
في كل عام تنتج فرنسا وحدها ما يقارب 1.7 مليون طن من النفايات الكهربائية والإلكترونية، أي ما يعادل 28 كيلوغراماً في السنة لكل فرد. وهو رقم كبير جداً، يستمرّ في التصاعد بنسبة، تتراوح بين الثلاثة والخمسة في المئة في كل عام. وكانت هذه النفايات لغاية العام 2005، لا تخضع لأي نظام خاص. ولكن هناك إجراءات فرضتها توجيهات أوروبية، من شأنها أن تخفض كميّة النفايات الإلكترونية المنزلية، الى أربعة كيلوغرامات في السنة للفرد الواحد، وذلك خلال فترة تمتدّ الى نهاية العام 2006. وبالتالي يلتزم الموزّعون، بموجب هذه الإجراءات، بتسلّم الجهاز القديم من الزبون مجّاناً، عند شرائه أي جهاز جديد. كما أن خطوات لاحقة سوف تتّخذ، للتخفيف من استعمال بعض المواد الخطرة، مثل الرصاص، الزئبق والكاديوم، في تصنيع أجهزة الخليوي.
لكن هذه التدابير الضرورية لا تحل المشكلة بالكامل. إذ يبقى منها القسم المتعلّق بالتجهيزات الكهربائية والإلكترونية غير الخاضعة لإعادة التأهيل، والذي سوف يتفاقم مع الرقم المتزايد لمبيعات الخليوي. هذا، بالإضافة الى أن المواقع التي تتمّ فيها عملية التأهيل، تطرح بحدّ ذاتها مشاكل بيئية كبيرة، غالباً ما يشتكي منها الساكنون بالقرب من هذه المراكز.
وفي الوقت الذي أصبح فيه مخزون الأرض من مياه الشرب، مشكلةً تطرح نفسها في العالم كله، فإن استعمال الماء بكمّيات هائلة في صناعة الإلكترونيات يساهم بشكل متزايد في عملية الهدر. أما استخدام المواد السامّة، فيطرح مشكلة أخرى، لا سيما بالنسبة للمقيمين بالقرب من مراكز التصنيع، وللعاملين فيها. وفي كاليفورنيا، يهتم إتّحاد اSilicon Valley Toxic Coalitionب ، بالنتائج البيئية والصحيّة التي تخلّفها الصناعات الإلكترونية. ولدى هذا الإتّحاد، برنامج عملٍ يُثقل كاهله بالدعاوى التي تتعلّق بالأمراض والمشاكل المهنيّة: حالات الإجهاض تضاعفت مرتين ونصف المرّة، حتى أنها وصلت الى ثلاثة أضعاف عند الحوامل اللواتي يتعرّضن للمواد السامّة الموجودة في مياه الشرب الملوّثة، حالات سرطانية، تلوّثٌ في حقول المياه الجوفيّة، تعرّض العاملين في الصناعات الإلكترونية لمواد سامّة مثل الزرنيخ أو الأحماض أو الأرسين (غاز ملتهب عديم اللون وشديد السمّية). وهكذا، نرى أن صناعة التقنيات العالية بعيدة جداً عن الصورة النظيفة التي تحاول أن ترسمها لنا.
الثمن الحقيقي لاتصالاتنا الهاتفية
من المكوّنات الأساسيّة للهاتف الخليوي، مادّة الكولتان (Coltan) وهي اختصار لكلمة اcolomhotantaliteب. ويُستعمل هذا المعدن غير الخالص لمقاومته الكبيرة للحرارة والتآكل، وأيضاً لمرونته، لكنه يشكّل المحرّك الأساس لما يمكن أن نسمّيه فضيحة إنسانية وبيئية. فالمشكلة الكبيرة تكمن في استخراج هذا المعدن من المناجم الموجودة في جمهورية كونغو الديموقراطية والتي تسبّب كارثة حقيقية بالنسبة للشعوب المحلية، وأيضاً بالنسبة لجماعات الغوريللا والفيلة وحيوانات الأكاب (حيوان إفريقي من فصيلة الزرافة غير طويل العنق)، الموجودة في منطقة كيفو شرق البلاد. وقد صدرت تقارير عدّة عن هيئة الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة، في العامين 2001 و2002 أدانت عمليات التنقيب غير الشرعية في مناجم معدن الكولتان، ودورها في حرب الإبادة التي تتعرّض لها المنطقة (وصل عدد المتوفّين منذ العام 1998 الى ثلاثة ملايين شخص!) وأيضاً دور هذه العمليات في القضاء على الغابات والجداول المائية، إضافة الى المجازر ضد الحيوانات التي يصطادها عمّال المناجم في بحثهم عن الطعام.
وقد حملت هذه الكارثة أحد الصحافيين الأفارقة الى إعطاء معدن الكولتان، وصف «لعنة الكونغو». وكان ديفيد شيبرد، رئيس البرنامج الذي وضعه الاتحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة، قد كتب في العام 2001: «يتم نقل معدن الكولتان المستخرج من هذه المواقع، بواسطة الطائرة، ثم يباع الى شركات كبرى مختلفة الجنسيات، في أميركا الشمالية وأوروبا وروسيا (...). إن الإتّحاد الدولي للمحافظة على الطبيعة يطلق نداءً الى المجتمع الدولي لكي يمتنع عن شراء الكولتان».
وقد دفع هذا النداء الذي دعمه الممثل العالمي ليوناردو دي كابريو، بعض الشركات الكبرى مثل «موتوريللا» و«نوكيا»، الى التصريح بأنها سوف تطلب من الجهات التي تزوّدها بهذا المعدن، أن تتحوّل الى المناجم الأسترالية أو البرازيلية بدلاً من الأفريقية. ولكن يصعب التصديق أن استغلال هذه المناجم قد توقف: أولاً، بسبب التقديرات التي تشير الى
وجود أكبر نسبة من المخزون العالمي لمعدن الكولتان، في الأراضي الأفريقية، وثانياً لأن الطلب على الهاتف الخليوي يتصاعد بشكل كبير. وبحسب الباحثين الكنديين حول نشاط المناجم في أفريقيا، فإن معدن الكولتان الأفريقي يبقى متوافراً بسهولة في الأسواق الأجنبية، على الرغم من صرخات الإدانة التي تطلق على المستوى العالمي.
ما مدى حقيقة أخطار الهاتف الخليوي؟
ماذا نعرف عن مخاطر الهاتف الخليوي وهوائيات الربط، ومضارها على الصحة؟ هناك صعوبة في الإجابة بوضوح على هذا السؤال، ولم يسبق لأي إختراع عرف انتشاراً بهذا الوسع أن بقي - كما هي الحال بالنسبة للخليوي - من دون أن نعرف حقيقة تأثيراته على الصحة!
والواقع أنه لم يتم حتى الآن إجراء أي دراسة حاسمة بهذا الشأن. ولا يسعنا حالياً إلاّ أن نكتفي بالمقارنة بين مواقف مختلفة، ومتناقضة أحياناً. فمن جهة هناك موقف العاملين في مجال الهاتف الخليوي، وموقف الوكالة الفرنسية للسلامة الصحيّة البيئية الذي لا يعطي اي حجّة علمية تبرهن عن وجود ضرر ناتج عن الخليوي. وهناك الموقف الآخر لجمعيات مختلفة ولعدد من الباحثين، وهو يحمّل الجهاز الخليوي مسؤولية دقيقة وحسّاسة. ويتبنّى هذا الموقف أربعة باحثين فرنسيين، أعضاء في اللجنة العلمية المختصّة بالحقول الكهرمغناطيسية، وأصحاب «الكتاب الأبيض»* عن «النظام الشامل للاتصالات الخليوية»(Global system for mobile communication)، الذي نشر في العام 2004.
والجدير بالذكر أن هؤلاء قد تمّ إبعادهم من فريق الخبراء المستشارين للوكالة الفرنسية للسلامة الصحيّة البيئية. وكان الباحثون الأربعة قد أبدوا رغبتهم في نشر نتائج أبحاث، كانت السلطات الفرنسية قد أهملتها. ويقول هؤلاء: «إن الدراسات في علم الأوبئة التي تجري تقريباً في كل مكان من العالم، تُظهر بشكل واضح أسباب الاضطرابات الصحيّة التي يشعر بها حاملو الهاتف الخليوي، وأيضاً القاطنون بالقرب من هوائيات الربط، مثل الأرق، الخلل في وظائف القلب، ارتفاع ضغط الدم، أوجاع الرأس وغيرها، كما تشير الى احتمال وجود رابط بين التعرّض لموجات الخليوي، وأمراض خطيرة مثل السرطان وانحلال الأعصاب...».
من جهتهم، نبّه فرقاء من بلجيكا وألمانيا والسويد، من مخاطر قد تصيب الحمض النووي أو الدماغ حتى، بسبب تعرّضه للتسخين، وأيضاً من خطر إصابة العصب السمعي بالسرطان.
وفي ظل كل هذه المعطيات المتناقضة، ما هو الموقف الذي يجب اعتماده؟ وبماذا يجب أن نفكر؟ إنه سؤال لا تسهل الإجابة عليه، لا سيما بعد الاستقالة التي قدّمها في حزيران 2005، البروفسور زميرو (Zmirou) المدير العلمي في الوكالة الفرنسية للسلامة الصحيّة البيئية، والتي جاءت لتطرح أكثر من علامة استفهام.
مئة وثلاثون مليون جهاز خليوي في...سلة المهملات!
سباق في تحديث الموديلات، وتسويق نماذج متطورة أيضاً وأيضاً. كل ذلك يساهم في التقصير من عمر الجهاز الخليوي، الى زمن أصبح لا يتعدّى الثمانية عشر شهراً كحدّ وسطي. ففي العام 2005 وفي الولايات المتحدة الأميركية فقط، كان مصير نحو مئة وثلاثين مليون جهاز خليوي في سلّة المهملات، أي ما يعادل نحو خمسة وستين ألف طنّاً من النفايات الإلكترونية، التي يعتبر تلويثها للبيئة، سامّاً بشكل خاص. فالمعادن الثقيلة مثل الرصاص والكاديوم والزنك والزئبق وكذلك مواد إبطاء اللّهب التي يحويها جهاز الخليوي تتسرّب الى التربة وتحدث انبعاثات خطرة لغاز الديوكسين عند إحراق الأجهزة. وتقول بعض المصادر أن الكمية الأكبر من النفايات الإلكترونية يتم تصديرها الى الصين بغية إعادة «تأهيلها»، في ظلّ شروط كارثية على الصحة والبيئة معاً: فمن إحراقٍ للقطع في الهواء الطلق، الى تلويثٍ لطبقات المياه الجوفية، الى تكليف الأولاد بأعمال خطرة بالنسبة لسنّهم.
وفي العام 2004، أعلنت كل من منظمة اGreenpeaceب وشبكة اBasel Action Networkب، عن رصدها للمتاجرة غير المشروعة بالنفايات الإلكترونية، في مدينة تايزهو الصينية، حيث يتم نقل هذه النفايات في المراكب، من مرفأ الى آخر، ثم ترمى بعد ذلك عشوائياً على ظهر الشاحنات مع حمولات من الصلب والنحاس. وهكذا فإن حياة الخليوي تنتهي نهاية غير مشرّفة، مثل بدايتها. وبالتالي فإن تأمين الإتصال في أي زمان وأي مكان، يجعلنا ندفع ثمناً غالياً، من صحّتنا ومن البيئة التي نعيش فيها. الأمر الذي لا بد أن يتوقّف عنده الكثيرون، قبل أن يتهافتوا على اقتناء آخر الصرعات في عالم الهاتف الخليوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق