دكتور محمد الشافعي
حين وقفتُ اليوم أمام قبر والدي ووالدتي، انفرجت في صدري أبواب الذكرى، وسرى في وجداني حنينٌ عارمٌ لا يُقاوم. تأملتُ النقش الباهت على الشاهديْن، فانهمرت من عينيّ دموعٌ حبستها السنين، كأنّ الفُقد يتجدّد، وكأنّ القلب الذي ظنّ أنه تعلّم الصبر يعترف اليوم بأنه ما زال هشًا أمام الغياب، وما زال طفلًا يفتقد الحضن الذي لا يعوضه حضن.
مرت عشرون سنة على رحيل أمي، واثنتا عشرة على رحيل أبي، ولكن الزمن ـ على طوله ـ لم يكن كافيًا ليطفئ وهج الحنين، ولا ليغلق نوافذ الحب المفتوحة على الأبد. أمي، يا من غرستِ في قلبي أول بذور الحنان، ويا من كنتِ القلب الذي ألوذ به من قسوة العالم، كيف لي أن أنسى عينيك وهما تفيضان حنانًا، ويديك وهما تمسحان عن جبيني الوجع؟ كنتِ الحضن الأول، والمأوى الأخير، وصوت الدعاء الذي لم يخفت حتى في صمت الليل.
أما أبي، فقد كان القدوة، والسند، والمعلم الأول لمبادئ الحياة. رجل لم يعلّمني بالكلام قدر ما علّمني بالفعل، حملني في صغري، وحمل همّي في شبابي، وعلّمني أن الرجولة موقف، وأن الأخلاق ميراث لا يفنى. من صوته تعلمت الحزم، ومن صمته تعلمت الحكمة، ومن خُطاه في الحياة تعلمت أن أكون رجلًا يشبهه، أو يحاول.
اليوم، وأنا أقرأ الفاتحة عند قبريهما، شعرتُ أنني أستعيد شيئًا من نفسي التي غابت برحيلهما. شعرتُ أنني لست وحدي، وأن آثار أيديهما ما زالت على كتفي، وأن صدى نصائحهما يملأ رأسي، وأن عطورهما القديمة ما زالت تسكن ذاكرتي. في لحظة خشوع، تمنيت لو يعود الزمن يومًا، لأقبّل يد أمي وأرتمي في حضن أبي، فقط لحظة واحدة، أقول فيها ما لم أُتقن قوله حين كانوا بيننا: شكرًا... سامحاني... أحبكما كثيرًا.
الغياب لا يُقاس بالسنين، بل بالحاجة، والحنين، والذكرى. وما أشدّ افتقادي لهما حين أُنجز أمرًا جيدًا فأبحث عن نظرة رضا، أو حين أضعف فأشتاق إلى كلمة مواساة. ليتهم يعلمون كم أنا مدين لهما بكل ما أنا عليه اليوم، وكم أنني ما زلت صغيرًا أمام صورتيهما، وكم أن قلبي ما زال يتألم كلما رأيت وجهًا يُشبه وجهي، أو صوتًا يُشبه صوتهما، أو دعاءً يُشبه ما كانا يردّدانه لي قبل النوم.
رحمهما الله رحمةً تسع السماوات والأرض، وجعل قبريهما روضة من رياض الجنة، وجعلني ابنًا بارًا بهما حتى بعد الرحيل، بالدعاء والذكرى، وبالخلق الحسن الذي تعلمته منهما.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق