الدوامة
د. مني النموري
تعرفها جيداً تلك الدوامة المدوخة..ربما مثلى تصطحبك منذ بداية يومك وأنت تتمتم "إصطبحنا وصبح الملك لله" و ترتشف الشاى وانت تقلب فى القنوات بحثاً عن أيه أخباروقد تصطدم صدفةً باحد القنوات لاتزال تذيع أغنية الشهداء الشهيرة " يابلادى يابلادى أنا بحبك يابلادى" ولمن هم ضليعين فى الأغانى الوطنية مثلى ستتذكر على الفور ان الأغنية أصلاً من فيلم "العمر لحظة" وكانت تهز قلوب المشاهدين
فى مشهد مدرسة بحر البقر الإبتدائية والكاميرا تركز على أحذية الطلاب المتناثرة والمرايل البيج القديمة من تيل نادية مختلطة بالدماء بعد القصف الإسرائيلى قبيل حرب 73 وتجد نفس الدوامة معك فى صراعك اليومى فى الشارع بقمامته وسياراته التى تأتى لك عكس الإتجاه تحتضنك فى تآلف وحب وتلمح بطرف عينك شعار25 ينايرعليها دونما إندهاش..وتستمر معك فى مكان عملك اينما كنت وأنت ترى كل أنواع المتناقضات مختلطة بنكات الثورة ومصطلحاتها الجديدة..وبالطبع لن تفارقك حين عودتك بل وستزداد حدتها حين تعود للبيت وتواجه معضلة المرتب الذى طار بسبب إرتفاع الأسعار والتضخم وعودة المدارس و ستعود هرباً للقنوات التى إستوحشتك طيلة النهر وتنتظرك بفيضان من البرامج المسائية مليئة بكل انواع الكلام المفيد والغير مفيد ويبدو المشهد من عينى كائن فضائى يتابع الموقف فى غرفتك الرطبة من فوق كما لو أن مذيعين القنوات يتلقفونك من يمين ومن شمال يقطعون ملابسك واحدة تلو الأخرى ويدخلون بعدها على ضلوعك و أطرافك فتارة أنت مع الثوار وتارة مع المخلوع وأحيانا مع إستمرار التظاهرات لأنه لاشئ يحدث سوى بالضغط و تارة مع توقفها لأنها تشجع على البلطجة, وتحتارهل تكون فرداً فى التظاهرات الفئوية الخاصة بمهنتك وتتركهم يقنعونك أن هذا هو الوقت الوحيد لمحاولة الحصول على أى جزء من الكعكة بعد جوع أم تميل الى تهدئة الأمور وترك الفرصة للقادة لترتيب الأوراق وتتسائل بينك وبين نفسك عند ذكر هذا كيف سيتم ترتيبها و لمصلحة من بالتحديد.. تلتهب من الحماسة و أنت ترى العلم الإسرائيلى على الأرض من عليائه ثم تمتلئ حزناً وانت ترى العنف والتدمير للشوارع والعربات وتجد وجعاً غريباً فى دماغك وأنت تشاهد نتنياهو يتمسك ببنود معاهدة السلام ويبدو أمام العالم ممثلاً عن دولة متحضرة وتظن أن صداعك بسبب إرتفاع الضغط ولكننى أؤكد لك ان الصداع سببه إدراكك الخفى أنك لاتزال تفشل دبلوماسياً وأنك تخسر الإحترام الذى كسبته عالمياً وأنك لاتزال تلعب اللعبة بالقواعد الخطأ..وبلا شك الدوامة الآن فى قمة دورانها وأنت تسمع آراء السادة المتحثين عبر القنوات أو فى الصحف وهم يأخذونك فى طريق وقف التظاهرات لأنها مسئولة عن أعمال البلطجة وآخرون يقنعونك أن تباطؤ صاحب القرار وربما قلة حيلته و إختلاف أولوياته عنك و بالطبع صمته الغريب هو السبب ولا تنسَ أن هناك من سيحاول أن يوهمك بأن النزول مرة اخرى للتحرير هو خيانة لأمن وإستقرار الوطن وستجد فى المقابل له من يقنعك أن التقاعس هو الخيانة الحقيقية لثورة مصر ودماء أبنائها فأنت فى كافة الأحوال خائن إما من هؤلاء او هؤلاء..حاول أخذ مسكن الآن لأن الصداع حتماً آخذ فى الإزدياد.
تضغط على الريموت وتأتى بقناة أفلام او مسلسلات أو اغانى وتتوه..إذا ظننت وقتها أن دوامتك قد غادرتك فأنت واهم..هى فقط إنتقلت من دماغك الى عقلك الباطن..أين هو؟ فى دماغك أيضا! و تتابع الفيلم وتيار شعورك الداخلى يتنقل بحرية تامة من نقطة لأخرى دون ان تشعر حتى تفيق فتجد نفسك عند نقطة قريبة من نقطة إنطلاقك الأولى وكأنك لم تكن تبعد بل تقترب أو ..صحيح.. وكأنك كنت فى قلب دوامة تدور حول نفسك..تبحث بقدمك عن أى نقطة ثابتة ..تثبت قدمك فى الرمال بقوة..الله جل جلاله نقطة ثابتة..سلفيون أم إخوان أم ازهريون..كنيسة مصرية أم أقباط مهجر..تدعو.." اللهم أرنى الحق حقاً و أرزقنى إتباعه وأرنى الباطل باطلاً وأرزقنى إجتنابه"..تشعر بعظمة الله فى قلبك لو كنت تدعو بضمير..إستراحة قصيرة من الدوامة يصبح فيها الصداع ألم بليد معتاد.. يحب الله المؤمن القوى الإيجابى.. حسناً تركز على امورك لتضبطها..أولادك..المدارس على الأبواب..هانحن نبدأ من جديد..ما مدى أمان اتوبيس المدرسة فى شارع لاتعرف له ضابطاً ولا رابطاً..هل تتأجل الدراسة؟ تبدأ ثم تنقطع؟ يسوء الوضع فتتأجل؟ فصل دراسى آخر تؤهل نفسك فيه للتعليم المنزلى.. تشترى الكتب الخارجية وتتعجب وأنت تقلبها لماذا لا تصبح كتب المدرسة بنفس الجودة فلا تحتاج أن تشترى كتباً أخرى وتتذكر مافيا الكتب والدروس وأرزاق الناس المعتمدة على ذلك والتعليم الموازى الذى تم خلقه لمصلحة فئات بعينها..قاوم الدوامة..إغرس قدميك فى الرمال بقوة وركز على البسيط من الأمور..تأخذ كتاب القراءة الخاص بإبنتك الصغيرة..أمير وأميرة ونظافة الشارع وإحترام الغير والأمانة وحب الوطن..ما كل هذه الدوخة؟ تكاد تتقيأ..حسناً فلنبعد عن المعانى الكبيرة المجردة لأنها حتماً تقلب عليك المواجع..نركز على الماديات..نأخذ كتاب رياض الأطفال حيث كل شئ يعنى شيئاً واحداً أمام عينيك. أب..أم..قلم..كتاب..طماطم ..جزر..أحمر..أسود..أبيض..علم ع.ل.م...مرحباً بك مرة أخرى فى الدوامة!
هناك تعليق واحد:
حقاًدوامة...
إرسال تعليق