الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي قبل تطوير فعله المادي: ملبسه مأكله مسكنه وإنجازاته، بكونه "عقلي" فأطلق على ما أنجزه بعد أن أدهشه إنجازه حضارة، ومن ثم تبادل كلمة التحضر، والمتحضر مع الآخر من جنسه من خلال الفعل المتبادل الذي أحدث له التمايز، والاختلاف عن باقي المخلوقات التي تعمل بالإحساس، ولم تستطع تبديل نظم حياتها منذ خلقها وإلى الآن، فالطير مازالت تبني الأعشاش، والسلاحف تخفي بيوضها في الرمال، والحيوانات تعيش في الزرائب والأوكار، والأشجار والنبات لا تنمو إلا في العراء، والإنسان الوحيد تبادل الحضارة والتحضر فيما بينه وبين أخيه الإنسان، أسألك: هل أنت حضاري متحضر تسعى للتحضر، تحاول أن تقلد ما رأيت وسمعت وقرأت عن هذا المشروع الفكري الضخم المهم، بكونه الأهم في كون يحتاج الحضارة التي تبحث عنها، حيث وجدت بها، وأوجدت لك كل أشكال الجمال الفوضوي، وعبثية الطبيعة تعود علّها تميزها في نظرة الباحث المتأمل المتجول عبر محيطه؛ والمدرك لشكله الحضاري، المنطلق منه لدراسة شكلها وأشكالها وإشكالياتها، تطالب عقلك البحث والتقصي عن الوسائل والسبل أثناء قراءتك للرسائل التي ارتضيت حملها طوعاً وكرهاً، كي ترتقي أنت أولاً عاملاً على الارتقاء بمحيطك من ذاتك، حيث يغدو كل ذلك مهماً جداً لوجودك، لتعود في كل مرة تراقب ما أنجز لك، كي تنجز وتوازن وتقارن مما مضى، وتعلم وتتعلم عن تلك الإنجازات التي مررت بها حتى الآن، وتتجه ببصيرتك الممتلكة للبصر الذي يحمل أداة اسمها النظر، تدفعك لتنجز من كل ما رأيت حضارة تستمر وتنفعل، فينفعل من يرى ما أنجز على دروب غدٍ القادم من تلك، فيعلم إلى أين سرت وحيثما وصلت، يؤمن ويدرك بأنه من ها هنا عليه أن يتابع ويستمر، متجاوزاً ثقافة الأنا ليعترف به الذي يرى أنه متحضر وكائن حضاري، عاش زمانه متطوراً أوجد لهذا التطور أزمنة .
إن حصول المناوأة الخبيرة بين الأزمان، هي التي ترسم صور الفوارق بين المتروكات على الأرض مادية أم معنوية، ومنها نعلم حجم التطور وقيمة التحضر السابق؛ الذي أوصله إلى وجودنا الحالي كحضارة باقية أزلية أو بقايا حضارة نشاهدها، نعلم من خلالها قوة إيمان منشئها الذي أنجبها من فكرة البنّاء والرسّام والنحّات، وأخذ بنا للاطلاع على كمّ التوازن والاطلاع على النسب الحضارية والمقارنة بيننا وبينه، وأننا متصلون جغرافياً ومنفصلون فكرياً بدلالة أننا مستمرون في النبت نستلم منه ونستسلم له .
من منا يعتقد في عقله الباطن والظاهر أن ذلك الإنسان القديم جداً والموغل في القدم؛ والذي أثناء استقصائنا عنه عرفنا أنه مارس الهمجية عبر عريه وعيشه في الكهوف ومشاعيته في بدائية لا متناهية، وصوّر لنا على أنه متخلف وعبثي وهيامي، وأثناء رحلة تطوره التي حولته من هلامي بحري جلس على شواطئ البحار، واحتاج ملايين السنين ليصل إلى شكله الإنساني، وأن الصدفة أنجبته وأنبتته، وأنه زاحف قردي تطور عبر رحلة الوقوف كي يظهر عموديَّ الشكل وحيداً بين المخلوقات!، من منكم يعقد أنه احتاج ملايين السنين كي يدرك المدرك الذي لا إدراك له، مهما عملت وفهمت وتعلمت من أجل إدراكه، من منكم يستطيع أن يعترف أن ذلك الإنسان القديم هو أذكى من كل أنواع الذكاء الذي وصلنا إليه؟ .
بشكل شخصي أقرُّ معتقداً جازماً أن ذلك الإنسان كان ذكياً جداً وخارقاً، لماذا؟ الجواب بسيط أيضاً، وهو أننا محكمون إليه ومنجذبون إليه مستمرون منه، أؤكد أننا جدّ متخلفون عنه نسير خلفه لا أمامه، نلهث سعياً إليه ولن ندركه .
أسأل لماذا؟ مرة ثانية وأجيب بسؤال: كيف صنع نوح ذلك الفلك العظيم كي ينقذ الزوجية الاستمرارية وحاجة الحياة إليها، كيف صنع ذلك الفلك العظيم لإنقاذنا كبشر وكزوجية حياتية، حمل لها كل أنواع الطيور والزواحف والقوارض والأفيال والنمور والذباب والنمل والنحل والأغنام والأبقار والجمال وبذور الحبوب والأشجار المثمرة والخضار والفاكهة، وأهمّ من كل ذلك حمل زوجين من إنسان أبيض وأسود وأحمر وأصفر وملون، كم كان ذلك الإنسان القديم: إنسان نياندرتال الأوروبي، وجاوا الآسيوي الإندونيسي، ولوسي الإفريقي، وأحمر المايا الأمريكي ذكياً ومتحضراً من خلال مساعدته لنوح في صناعة الفلك، ألا تحتاج هذه الصناعة علوم الهندسة والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم البحار وقيادة السفن، كيف حسب ذلك الإنسان حجم السفينة وزواياها ودفتها وأشرعتها وغواطسها ومرساها، وحينما كان يهيم على وجه الماء كيف أنه أرسل الطير ليبحث له عن اليابسة، وحينما عاد له بغصن الزيتون، كيف وجه ذلك الفلك العظيم إلى تلك اليابسة ورسا على جبل الجودي إنساناً يمتلك الموروث الحضاري ينقله معه ليبدأ من جديد .
أتوجه إليكم: إن الحضارة قادمة من فعل حضر، ويعني هذا أنه حينما حضر الإنسان وُجدت الحضارات، إن كان في الريف أي الأرياف والقرى، وأينما حل بنى مسكناً شكله أياً كان كوخاً أو قصراً من لحاء أو غطاء أو مواد بناء، لذلك أقول: إن الحضارة مثيرة مغيرة على العقل الإنساني فيها الجدل وأفتح باب التأويل لكم، فقولوا ما شئتم واستخدموها حيث تريدون، واعتبروها التفوق والمجد والعظمة والرفعة، وقارنوا، وإياكم أن تعتبروا أن ذلك الإنسان الموغل في القدم همجي أو دوني.
فالإنسان إن لم يقلّب نظره إلى داخله من مكانه، ومكانة "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" لن يعلم التحضر ولا الحضارة، فإذا كنت كإنسان مخلوق في أحسن تقويم وأجمل صورة حينما نظرت إلى الماء؛ رأيت كم أنت جميل أحببت الجمال، والماء هو كائن لتكوينك فمن أين أنت قدمت، وإلى أين أنت تسير؟ أنت قطرة ماء تبخرت من بحر ومحيط الكون لتعود إليه ترويه، هكذا أنت، إن تفصل القطرة من بحرها ففي مداه منتهى أمرها، هذه الكلمات التي أتابع بها لأوجد لك الدليل والبرهان وأحدث لك التجانس لا التضاد، وإرادتي أن ترفض المحال بكون لا وجود لمستحيل والمحال، فقط أريد أن أقدم لك قضية الإنسان على أنه إنسان بصدقية الفكر الذي يرفض النقيض ويتصادق مع الروح ليغدو إنساناً .
وعليه أؤسس أنك إنسان حضاري يا أيها الإنسان، بديهي أن أقيس المبدأ الأساس في صناعتك كنظرية علمية وُجدت لاستنباط كل أساس، بعد أن أعطيت المفاتيح وهي متوافقة مع كل الأبواب، فإذا كنت قاعدة عليك أن تتجاوز البديهيات لتبني على أرضك المشكلة كقاعدة لصعودك في بنائك الذي أريد لك أن تبنيه، للعلم حينما تأتي الحضارة من حضر أي: شوهد- ظهر- لاح- بان- تكلّم- غني- وأغنى، أي وصل بعد أن لبس جلده مدنية وحمل عبء التقدم العلم والتقني والرقي والابتكار والاختراع والتنظيم، والعمل من خلال امتلاك الفكر الذي يعود عليه لينظم نفسه، وشكله وينظم الطبيعة بموجوداتها كي يصل إلى المستوى الأفضل، والذي يسعى إليه طيلة حياته التي اعتبر بها موته وسيلة استمرار لا وسيلة استسلام، إنما هي تسليم في لحظات الانتقال عند نقطة نهاية البداية؛ التي ما إن ينزل تحت الثرى حتى يتبخر إلى قطرات، تتحول إلى سحاب تهطل تعيد الحياة عبر سقي التراب وحدوث عملية الإنبات والإنجاب، وكل ذلك من أجل الوصول إلى مستوى أفضل في الحياة، وهي محاولات استكشافية، واختراع في الفكر الإنساني غايته تنظيم الحياة، وترتيبها واستغلال المحيط الطبيعي بكل موجوداته للوصول إلى مستوى حياة أفضل .
أعترف إنني إلى الآن وحقيقة أقول: إنني لم أدخل في علم (آن) الذي يحتوي ثلاثية الأزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، هذه الثلاثية الجامدة وغير المتحركة تحتاج بعدها الرابع ،وأقصد به ذاك الزمن الكبير المحيط الذي يعطيها الأمر للانتقال إلى الأمام، عليه أناشدكم التأمل ليشتغل الفكر بالتفكر وتدور عجلته مابين الماضي والمستقبل كي تعلموا أنكم في الحاضر، تتفكرون فيحدث لكم العلم الذي من خلاله تعملون تراقبون تشاهدون فتعلمون ليزداد علمكم، من ذلك أعود على بدء إلى ذلك الإنسان القديم جداً الأزلي من أزلية الإله، حيث وجد من خلاله، أوجده كي يعترف بوجوده وموجوده في وجوده، ملك كل الوجود وعرف به الناهي واللامتناهي.
الحضارة هرم متكامل لا يظهر كبناء إلا بعد أن تكتمل أبعاده التي تبث مظاهرها، فالاجتماعي المبني من الرجل والمرأة المكونَين الرئيسين للأسرة المنبتة للمجتمع الذي يعيش فيه النتاج الفكري بكامل أطيافه، المعتقدات بكل أشكالها والعبادات باختلاف طقوسها، ونشوء الروابط المنطقية بين كل ذلك، وفهم الإنسان لنظرية الحياة الكونية، وتمتع المجتمع برؤى بصرية تنجب الفن بكل أشكاله: موسيقا ورسم ونحت وعمارة ومسرح، كل هذا مجموع اجتماعي ينضوي تحت مكون قاعدي، يبنى عليه المظهر الاقتصادي؛ الذي يتجلى بإدارة الماديات المكونة للثروة القادمة من قوة العمل في القطاعات الزراعية والصناعية والإبداعية، حيث يرتقي منها البعد الثالث، وهو المظهر السياسي، حيث يكتمل البناء به ويغدو هرماً قوياً رابطاً وجامعاً ولامعاً أمام ما يبنى من هياكل أخرى في أطراف الأرض، يحمل صفة الحضارة الحقيقة، كما ارتباط الحضارة بالديمومة التي نطلق عليها الآثار بكل أشكالها مادية لا مادية، لتكون أهم مصدر يغنيها، ومتحدثاً حقيقياً عنها من خلال الإنشاءات المعمارية والإبداعات العلمية والجماليات الأدبية في شتى أشكالها، لتؤدي في مجموعها إلى استمرار الحضارة، مظهرة قيمة الأمة، حيث تستمر وتنتشر وترتقي وتقارن، لتتوضع على كفة الميزان الذي يقيس ما أنجزته مسجلاً لها وزناً وثقلاً بين الأوزان الحضارية.
الحضارة نتاج مجموع إنساني يمتلك السلوك الإيجابي يؤمن بالإنتاج النوعي الراقي وينعكس على الفرد الذي هو المكون الأساس، في البدء يظهر منه ويرتبط به من خلال الحركة والسكون والفعل والانفعال والتفاعل ضمن مسيرة حياته، وعليه تكون الحضارة موروثاً جينياً ينمو في الدماغ ويسري مع الدماء ضمن الشرايين الإنسانية حيث نتوارثه من الإرث الحضاري القديم، فإذا تم نسف ما مضى فهل يمكن لنا أن نصنع حضارة وأن نكون متحضرين، وهل تعني لنا الحضارة اللباس الفاخر والعطر الجذاب، أم أنها تراكم معرفي وتأمل معماري كوني؟ قادم من عظمة الكون ومشيداته التي ولدت الإلهام بالوراثة والإبداع بالتأمل والتفكر حيث أحدثت ثورات علمية نطلق عليها صناعة المقارنة دون أن ترتبك الروح (أي موجود روحي يقابله مصنوع مادي يقترب منه في دقة ولا يمتلك الروح حيث يكون الإنسان صانعه روحه) .
ألم نتعلم من الطائر النظافة والطهارة، هل راقبناه وهو يقوم بتنظيف جسده بمنقاره، وكيف أنه يغتسل بقطرات الماء فتعلّمنا وتحضّرنا من خلال مراقبتنا له، هي هكذا حياة الإنسان علينا أن نبحث عن الخطوات الحضارية التي سار في طريق تملّكه لها؛ كي نتعلم أن الرفاهية ليست حضارة، بكونها تقودنا إلى الفراغ، وغايتنا أن نسير بزيادة إنسانية الإنسان بكونه يلبس جلداً مدنياً، فهو مدني من لحظة نشأته الأولى ولكنه متنوع الطباع، منه من أخذ الطبع الهمجي، ومنه من حمل الإنسان في داخله وسار فأنجز السلوكيات الخلاقة التي تشير إليه على أنه إنسان متحضر، لا بشر همجي متقوقع، وكنا قد شرحنا في مواضع سابقة من كتبنا أن بشر قادمة من ( بدء شر) بدليل أن قابيل بشر وهابيل إنسان (قابيل قتل هابيل) .
الحضارة مدنية إنسانية ضمن سلسلة تاريخية لا تنفصل عراها، متعاقبة تربط الأجيال إلى بعضها من خلال توارث الثقافات والاطلاع على المكنونات والموجودات وتبادل المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وصون وحفظ وجمع كل ما له علاقة بالموروث الحقيقي القادم من الإنسان ليتركه فيستلمه إنسان حضر؛ بعد أن ظهر فيه الرقي العلمي والأدبي واستقر وأقام ولم يغب، فتمدن من مدنيته وأفرد مساحة عقلية لقاعدة ثقافية تحولت إلى بناء على شكل شبكات بلورية قوية البنيان، فيها تجتمع الجهود فتكون صورة المجموع الذين أرادوا أن يرحلوا أجساداً ليخلدوا آثاراً عظيمة يتمتع بها القادمون والمتصلون بهم .
إنها قيمة الإنسانية جمعاء عبر مسيرتها التاريخية، حيث أن كل حقبة أنجزت حضارة كانت ضمانة لها أثراً مادياً أو غير مادي هو بمثابة قمتها وقوتها وإنجازاتها، فهي الإنسان القديم الموغل في القدم، كما أنها الإنسان الحاضر، وأيضاً هي إنسان المستقبل، وحينما ندخل إلى مقارنة بين الحضارات ،وغايتنا إيجاد خطوط الاتصال ما بينها، أي مابين الشمال المادي أوروبا، والجنوب اللافكري والوسط الروحي، والذي انتشر من الشرق: في أدناه الصين الهند الفرس العرب، حيث كانت حضارة إيبلا وأوغاريت وزنوبيا والمعابد والممالك والقلاع والحصون والأهرامات والإغريق اليونان إلى أن تصل إلى حضارة المايا والأنكا، وتمركز الحضارة الروحية بإبداعاتها في الشرق الأوسط لتولّد لكامل البشرية على الكوكب الحي ضوابط تحمل الأخلاق والسلوك، وتوجد لهم المقدس والمحرّم والمقبول والممنوع، هذا التنوع الذي نتعمق فيه يأخذ بنا إلى سؤال رئيس تداولناه ونحن نمضي في إنجاز ما نريد أن نوصله إليك: هل تعتقد أن الإنسان خلق همجياً أم مدنياً متحضراً، وكيف أنه ستر عورته بورقة التين لمجرد معرفته أنها عورة، ألا يدلك هذا على أنه حضاري وماذا يعني لك هذا؟
وأنا أختم أعود لأقول: إن فلسفة الحضارة تقضي لنجاحها التعاون الإنساني، وما نراه اليوم هو فرقة إنسانية وحياوات مادية بإنجازاتها التي تزيد الفرقة، وتوسع الهوة بين شعوب الأرض، ليعمل البعض من خلال السيطرة على الكل بعكس ما كان سائداً في تلك العصور الموغلة في القدم، وكأننا لم نتعلم من تلك الحضارات سوى ما فعله قابيل لهابيل حيث قتله من أجل الحصول على زوجته وعلى ممتلكاته، فالحضارة الإيجابية مدنية يمتلكها إنسان والهمجية حضارة سالبة تتجلى فيها السيطرة والقمع والقتل يمتلكها بشر على شكل إنسان، والصراع الدائم هو صراع بين هاتين الحضارتين।
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الباحثون العدد45 آذار 2011
2011-05-22
الـحـضـارة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق