صباح الجمعة، انتهز الهدوء
الصباحى لأشترى ما يلزمنى من متطلبات منزلية ولأمون عربتى بالنزين رغبةً فى تجنب
مذابح ازمة السولارداخل المحطات، وربما خرجت هرباً من الثكنة المنزلية المرضية
بعدما إنتشر فيروس الأنفولنزا فى المنزل وأعلنته منظقة موبوءة وقضيت النصف الثانى
الأجازة فى التمريض الشاق المؤبد، كنت قد عزمت على الكتابة منذ فترة عن حمادة صابر
وخيبته التى هى خيبتنا، وعن ياسمين ست البنات الجديدة التى أذهلتنا بقوتها وعن
ومينا موحد القطرين تأثراً برحلتى الى أسوان وما وجدته من إهمال لكل شئ فى صعيد
مصر وموات تدريجى حقيقى لنظرية ان مصر بلد أثرى سياحى، كانت كل الكلمات امامى
والأفكار والصور فى ذهنى طول الوقت لكنها تتبخر بين الإنشغالة والاخرى، أراها تهرب
، تنظر لى معاتبة وانا اجهز الطعام او اعطى الدواء أوأحتضن مريضاً منهم ثم تمشى،
تتسرب لا أقوى على اللحاق بها.
أنتهى من مستلزمات البيت وألف
عائدة ليقابلنى بائع الفاكهة الذى نصب لنفسه مايشبه الخيمة أو الفرشه على الطريق
العمومى السريع من بعد الإنفلات الأمنى الذى صاحب الإنتفاضة المصرية ، كان واحداً
من عشرات ملأوا الطريق ولاتستطيع ان تكلمهم لأسباب عدة أولها أنك تتركه يأكل
"عيش" وثانيها أن وجوده وغيره من "الفرشات" على جانبى الطريق
المظلم ليلاً وفى وجود اللمبات المسروقة من أعمدة النور والنصبات التى تتحول
لبوفيهات أو غرز ليلاً ربما هى صمام امان للشارع المظلم من البلطجية وسارقى
السيارات الذين إنتشروا فى المنطقة، ومع الوقت تسرب الشك الى قلوبنا ان يكون هو
وغيره هم البلطجية وسارقى السيارات أنفسهم، ثم مر الوقت ولم يتغير الكثير سوى أن
العلاقات الإنسانية غالباً ما تجد طريقاً لها رغم كل الصراعات واننا أصبحنا نشترى
الفاكهة وهو يبيعها..وخلاص!
وقفت لأشترى يوسفى، أنزلت
الزجاج وسمعت الأسعار وحددت الكمية وتابعته بعينيى وهو يستدير ليزن، ثم لمحت عن
يمينى رجلاً يجلس على الرصيف، من عمال نظافة الشوارع الذين يرتدون الزى الأخضر
التقليدى، لكنه وضع على جسده العديد من السترات المختلفة الأوان والمقاسات فوق
الزى وإن ظلت الياقة الخضراء الكالحة ظاهرة للعيان دليلاً على مهنته وبجانبه
الجاروف والمقشة برهاناً اخيراً لمن لديه اى شك، وجهه خشن، سميك، يميل الى السواد
من عند الصدغين وشاربه خشن ومبعثرفوق شفته وكأن الشعيرات فى حالة خصومة سياسية.
جلس الكناس على الرصيف بجانب
بائع الفاكهة يأكل حبات اليوسفى من كيس أسود بلاستيكى صغير، يضغط بإصبعه على الحبة
من أسفل فتنتفح نصفين وتنقسم تحت ضغط إصبعه السميك قبل أن تتقشر، ويقذف بنصف الحبة
الى فمه دفعةً واحدةً ثم يعقبها بالنصف الآخر لتنطحن دون ان يخرج ايه بذور ثم يرمى
بالقشر المتبقى فى يده وراء ظهرة بقوة غريبة، لايضعه تحت قدمه بالطبع فيضطر ان
يكنسه ثانية، فهذا الجزء من الشارع مسئوليته، ولايرميه حتى فوق الرصيف وإنما يدفعه
بطريقة محسوبة فيتوه القشر فى الشجيرات وراء ضهره. على يديه الكبيرتين آثار قذارة
متراكمة ربما أصبحت ملتصقه بجلده تماماً لأنه رغم إبتلال أصابعه بعصير اليوسفى إلا
أنه لم تظهر على اى من الحبات التى أكلها أيه سواد كما أرى المشهد عن قرب جلياً
فوق عينى.
يتناول الحبة الأولى، الثانية،
الثالثة، لم يتوقف الرجل لأى إستراحة قبل الحبة الخامسة، ربما هى وجبة إفطاره
اليوم فى هذا المكان البعيد، ربما خصم له البائع من ثمن الكيلو وربما اعطاها له
صدقة وربما إشتراها الرجل بجنبهات قليلة جمعها من الشحاذة، فعمال النظافة يشحذون
أكثر مما يعملون والهيئة ترتب اوضاعهم على هذا الدخل الخارجى المؤكد، كان يأكل
حبات اليوسفى جميعها بنفس الطريقة، بنفس التركيز، بنفس التفرغ التام واللا مبالاة
لكل العالم الخارجى، بنفس النظرة البعيدة على نقطة مجهولة لاأراها انا، وانا أرقب
تلك اللحظات الكريستالية مأخوذة بثباته، بعدم إكتراثة لنظراتى، الحق انه ربما لم
يدرى أصلا بوجودى .الحق اننى لست موجودة فى عالمه، الحق اننا عالمين مختلفين مهما
حاولنا،من انا التى تقف بعربة نظيفة تنزل الزجاج الكهربائى لتفوح رائحة المعطر من
السيارة وتنساب موسيقى فيلم "قائمة شندلر" الكلاسيكية خارج العربة؟ من
انا التى تتلقى بضعة كلمات من البائع وتقول بضعة كلمات للبائع وتتناول كيس الفاكهة
وترفع الزجاج الكهربائى مرة اخرى وتمشى.
كان الشئ الحقيقى فى هذا المشهد
هو رجل النظافة، وإنسجامه فى زيه الأخضر وهو يأكل اليوسفى من الكيس الأسود، طاحناُ
بأسنانه البذر، رامياً وراء ظهره القشر بثقة، متوحداً مع الرصيف والشارع العشوائى
والبائع. للحظة هممت أن أمد يدى للشنطة لأعطى له حسنة ولكننى تراجعت، كان الرجل
ملكاً فى تلك اللحظة، واضحاً ، بطلاً، قوياُ، مهيباً بينما شعرت اننى نغمة نشاز
وبهات عريض فى وسط الصورة الواضحة.
فى اللحظة التالية، وقف توكتوك،
إشترى فاكهة، ثم بإتفاق أسرع من أن أفهمه حمل رجل النظافة بمكنسته وباقى كيس
اليوسفى حوالى كيلو للأمام ليكمل عمله وأغنية "هاتى بوسة يا بت..هاتى حتة يا
بت" تغطى على ما بقى من وجودى فى المشهد.
أصبح رجل اليوسفى الذى لا اعرف
له إسماً أكثر وضوحاُ فى صدرى بقية اليوم من صورتى فى المرآة، من حماده وياسمين
ومينا موحد القطرين.
هناك 3 تعليقات:
Thanks to topic
Thanks to topic
Thanks to topic
إرسال تعليق