دكتور محمد الشافعي
تحل اليوم الذكرى ال 12 لوفاة والدي رحمة الله عليه... وإليكم مقالي في سيرة ابي
.......
رحيل الأب زلزلة لا يدرك معناها إلا من عايشها. إنني ــ على ما عُرفت به من الكلام والكتابة والقدرة على بثّ ما يختلج في صدري على الورق ــ عجزت حين مات أبي عن أن أُمسك القلم، وكأن اللغة خانتني في لحظة هي الأجدر بأن أنطق فيها. فما أشد قسوة المصاب حين يصبح البيان ترفًا لا طائل منه، وما أصدق قول تشيكوف: إن أعظم الخطب التي تُلقى على القبور لا توازي في وقعها صمت قلب مكلوم فقد ركنه وعماده.
لقد كان أبي ليس مجرد والدٍ أنجبني ورعاني، بل كان قدوةً تُحتذى، ومعلمًا صامتًا يلقّنني الدروس بالفعل قبل القول. منه تعلمت أن الحياة موقف، وأن الرجولة ليست صخبًا ولا ادعاءً، بل هي ثبات في المبدأ ورحابة في العطاء. كان بيته محرابًا للقيم، وصوته نغمة صدقٍ لا تنطفئ. وها أنا اليوم أفتقد صوته ونظراته، لكنني أجد أثره في كل خطوة أخطوها، وكأنه لا يزال يمسك بيدي من وراء الغيب.
إن فجيعتي في أبي ليست مجرد غياب جسد، بل هي اقتلاع جذر ضارب في أعماقي. أستشعر وجوده في ضميري، وأرى وجهه في ملامح أيامي. ولو جاز لي أن أصفه بكلمة جامعة لقلت: إنه كان المعلم الأول والقدوة الأبدية، وإنني مهما بلغت فلن أكون إلا امتدادًا لما غرسه فيّ من قيم ومبادئ.
قد يمضي الزمان، وتلتئم جراح ظاهرية، لكن ألم فقد الأب يظل عميقًا، يشبه ندبة لا تزول. ومع ذلك، فإني أعتصم برضا الله وأتشبث بذكراه، وأحاول أن أُترجم وفائي له بالعمل والسير على خطاه. ولعلّ صمتي عند موته لم يكن عجزًا بقدر ما كان انحناءً أمام قامة عظيمة لا تسعها الكلمات، وأمام حزنٍ يفوق حدود اللغة والبيان.






