2025-09-17

إحباط أستاذ جامعي

 

بقلم دكتور محمد الشافعي 

الإحباط الذي يواجهه أستاذ الجامعة لا يمكن اختزاله في مشهد أو موقف، فهو شعور متغلغل في تفاصيل حياته اليومية، يتسلل إليه من كل اتجاه، حتى يكاد يصبح رفيقًا دائمًا له في رحلته العلمية والمهنية والإنسانية. هو الإحباط الذي يبدأ حين تُختزل رسالته السامية في محاضرات مرصوصة وجداول مرهقة ومعاملات بيروقراطية، وينتهي حين لا يجد في مؤسسته من يقدّر علمه، أو يرعى جهده، أو ينصف اجتهاده.

أستاذ الجامعة ـــ وهو الذي أفنى زهرة عمره بين الكتب والمكتبات، وكرّس عقله وروحه لتكوين أجيال وصناعة وعي ـــ يجد نفسه اليوم كأنه رقم في منظومة لا تعبأ بالجوهر، ولا تُقيم وزنًا للعقل، ولا تكترث لما يقدمه من عطاء. يشعر وكأن الجامعات التي كان يجب أن تكون منارات للعدل والتقدير والاحتضان، تحوّلت إلى مؤسسات يغلب عليها الجمود، ويسيطر عليها من لا يعرفون من العلم إلا قشوره، ومن العدالة إلا اسمها.

يواجه الأستاذ إحباطًا حين يرى من يترقى ليس بالكفاءة، بل بالولاء والانبطاح، ويُستبعد من لا يُجيد إلا الصمت أو المجاملة أو التغاضي. يرى زملاءه يُحاربون لأنهم عبّروا عن رأي، أو لأنهم رفضوا النفاق، أو لأنهم أرادوا أن يظلوا واقفين في زمن الانحناء. يتلقى الطعن من حيث كان ينتظر الدعم، ويُسدل الستار على إنجازاته في صمت، كأنها لم تكن.

ويزيد الألم حين ينظر حوله، فيجد أن المجتمع لم يعد يقدّر الأستاذ كما كان، ولم يعد الطلاب يرون فيه المعلم والمُلهم، بل يحمّلونه مسؤولية ما لا يملك، ويُطالبونه بما لا يُمنح. يضيق صدره حين يُقارن بين ما يحمل من علم وفكر، وبين ما يُخصص له من أجر ومكانة، فيدرك أن معادلة العدل اختلت، وأن القيمة أصبحت تُقاس بالمظاهر لا بالمعارف.

الإحباط يتسرب إلى بيته، إلى صحته، إلى أحلامه المؤجلة. فكلما أراد أن ينجز بحثًا جادًا، اصطدم بعراقيل النشر ودهاليز التقييم وغياب الدعم. وإذا أراد أن يُشارك بعلمه في مجال أوسع، وجد الأبواب موصدة إلا أمام من يملكون واسطة أو يرضخون لقواعد لا علاقة لها بالعلم.

في لحظة صفاء، ربما يجلس مع نفسه ويسأل: ماذا بقي من حلم الطفولة؟ من نُبل الرسالة؟ من معنى الأستاذية؟ لكنه، رغم ذلك، لا يستسلم. فالأستاذ الحقيقي، وإن أحبطته الحياة، يظل نبراسًا في الظلمة، يقاوم بصمته، يعلّم دون انتظار، يؤمن أن الفكرة لا تموت، وأن الكلمة الصادقة قد تغيّر العالم ولو بعد حين.

هكذا يبقى أستاذ الجامعة، قلبه مثقل بالخذلان، وصدره متخم بالمرارة، لكنه لا يزال واقفًا، شامخًا، كالشجرة التي لا تهزها العواصف، وإن تجردت من أوراقها. فالعلم عنده ليس وظيفة، بل عقيدة، والكرامة ليست ترفًا، بل أصل. وإن لم تحتفِ به جامعته، وإن خذله من حوله، فإن للتاريخ ذاكرة، وللسماء عينًا لا تنام.

2025-09-16

أعماق لا تري

 

دكتور محمد الشافعي 

ما أضيقَ عيونَ الأحكام حين تُطلق على الناس من أول نظرة، وما أجرأ الألسن حين تروي عنهم دون أن تغوص فيهم. إننا كثيرًا ما نرى البشر كأنهم صورٌ على سطح الماء، نُحكم على لمعانهم من انعكاس الضوء، وننسى أن في الأعماق عوالم أخرى، لا تراها العيون المتعجلة، ولا تدركها الأحكام المتسرعة.

الناسُ بحار، لا تشبه موجةٌ منهم أختها، ولا يتكرر شطّانهم مهما بدا ذلك في الظاهر. منهم من تُبهرنا زرقة ظاهرهم، لكن لو اقتربنا لوجدناهم موحشين، خاوين، عميقي الصمت. ومنهم من تظنه ضحلاً لا عمق له، فإذا ما حاولت التوغل في قلبه، وجدت كنوزًا مطمورة، وجواهر دفينة لا تُرى إلا لناظرين بصيرين.

كل إنسانٍ كتابٌ مغلق، ليس له عنوان واضح، ولا فهرس مفصل. نقرأ منه ما يُتاح، ونجهل ما خفي بين سطوره. وبعض الصفحات لا تُفتح إلا لمَن استحق، ومن تَقدّم بقلبٍ صادق، لا بعينٍ فاحصة. وما أندر أولئك الذين إذا اقتربوا من أرواحنا، فعلوا ذلك كما يطرق الحُبُّ بابًا: بلطف، ووجل، وتوقير.

في زمن التسرع، صارت الحُكمُ على الناس عادة، وصار الغموض عيبًا لا ميزة. كأننا نسينا أن بعض الأرواح لا تزهر إلا في الظل، وأن العمق لا يُعلن عن نفسه في ضوء النهار، بل في سكون الليل لمن أرهف السمع والروح.

الحكمةُ كل الحكمة أن نُجيد الصمت أمام ما لا نفهم، وأن نُكرم المساحات غير المكتشفة في الآخرين. فليس كل ما خفي نقصًا، ولا كل ما لم يُفصح عنه ضعفًا. بل كثير من النقاء لا يُجاهر بنفسه، وكثير من الجمال لا يطلب الانتباه.

فلنكن أكثر رفقًا في أحكامنا، أكثر تواضعًا في قراءاتنا للآخرين. نُمسك عن الظن، ونترك للأعماق حرية أن تظل مستترة، حتى يأتي من يستحق أن يرى... لا بعينه فقط، بل بقلبه.

وقد عرفتُ هذا يقينًا لا ظنًّا، إذ خالطتُ زملاء وأصدقاء وأقرباء، ما كنتُ أرى فيهم إلا السطح الهادئ، حتى جاءت مواقف فاصلة، كشفت لي أعماقًا لم أكن أظنها هناك، بعضها أدهشني جماله، وبعضها صدمني قسوته. عندها أدركت أن الأرواح لا تُكشف بالرؤية، بل بالاختبار.