الصفحات

2025-12-16

السلامة في الصمت

 

دكتور محمد الشافعي 

في زحمة الحياة، وبين ضجيجها المتراكم، يمر الإنسان بمحطاتٍ متتابعة من التجارب والهفوات، يتعثر مرة، ويقوم أخرى، يتورط في جدال، وينساق وراء القيل والقال، ويستنزف روحه في تتبع ما لا يعنيه. حتى إذا ما أثقله التعب، وأحاطت به الهموم من كل حدبٍ وصوب، أدرك الحقيقة التي كثيرًا ما غابت عنه: أن السلام الحقيقي لا يسكن في الأصوات العالية، ولا في الانشغال بالبشر، بل يكمن في السكون، في الصمت العميق، في الانصراف عن صغائر الأمور وكثرة التفسير والتأويل.

لقد وجدتُ — بعد طول تأمل وتجربة — أن السلامة كل السلامة في ترك الجدال، ذاك الذي لا يُثمر إلا وجعًا في القلب، وتعبًا في الروح، وخسارة للسكينة. لا أحد يُقنع أحدًا، فالناس أسرى قناعاتهم، وقلوبهم أوعية مُغلقة، لا تفتحها كثرة الكلام ولا حدة المنطق. والجدال لا يزيد الأمور إلا تعقيدًا، ولا يُورث إلا قطيعةً أو غصّةً مكتومة.

كما أدركت أن ملاحقة أخبار الناس، والحرص على معرفة من فعل ومن قال، ومن صعد ومن هبط، لا تُنتج إلا ضجيجًا داخليًا، وانشغالًا ذهنيًا يأكل من طمأنينة المرء دون أن يشعر. الناس يُظهرون ما يشتهون، ويُخفون ما لا يُروى، وأخبارهم، مهما بدت لامعة، لا تحمل لي من النفع شيئًا، بل تأخذ من وقتي وعقلي ونقائي ما لا يُعوّض.

وتعلمت أن الزهد فيما في أيديهم — من جاهٍ أو مالٍ أو حظوة — هو نعمةٌ لا يعرفها إلا من ذاق لذّتها. فالزاهدُ لا يحقد، ولا يحسد، ولا يتمنى زوال النِعَم من غيره، لأنه يثق أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن كل ما في الدنيا زائلٌ لا محالة.

أما النوافذ المفتوحة على مصادر الإزعاج، والمواقف المؤذية، والعلاقات السامة، فهي جراح مفتوحة، لا تلتئم إلا بإغلاقها. لا يكفي أن نُدير ظهورنا، بل علينا أن نغلق الباب بإحكام، وأن نُحكم الإغلاق على ما لا يُريح، ولا يُؤمَن جانبه، فسلام الروح لا يُشترى إلا بثمنٍ باهظ، وأغلى ثمنٍ فيه هو التخلّي.

في نهاية المطاف، وجدت أن أعظم قرار اتخذتُه كان أن أُدير وجهي إلى الداخل، أن أُصغي لصوتي، أن أكتفي بذاتي، وأن أختار السلام على الصخب، والهدوء على الضوضاء، والصمت على الجدل، والرضا على المقارنة. وحده الصمت يمنح الحكمة، ووحده البُعد يمنح البصيرة، ووحده الزهد يورث الغنى، ووحدها العزلة تُرمم الفؤاد.

ولعلّنا نُدرك متأخرين، أن السلام ليس حالةً من الهدوء المؤقت، بل اختيارٌ يومي، وقرارٌ شجاع، وتمرينٌ مستمر على ألا نُصغي إلا لما يرفعنا، وألا نرى إلا ما يُنير دروبنا، وألا نُبقي في محيطنا إلا ما يُشبِهُنا ويُريحُنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق